كيف بدأت عمليّات التّدمير في القواعد الإسرائيليّة الثّلاث تتكشّف بالتّدريج السّريع وتُثبت نجاح عمليّة “الوعد الصّادق” الإيرانيّة؟ ولماذا انخفضت نسبة اعتِراض الصّواريخ والمُسيّرات من 99 إلى 84 بالمئة في غُضونِ ثلاثة أيّام؟ وما هي الرّسالة الأخطر التي بعَثَها هُجوم “حزب الله” على قاعدة “عرب العرامشة” في الشِّمال المُحتل؟
مُنذ حُدوث عمليّة “الوعد الصّادق” التي نفّذتها مُسيّرات وصواريخ إيرانيّة بقصف ثلاث قواعد عسكريّة إسرائيليّة في النّقب المُحتل قبل ما يقرب من أسبوع، عقد مجلس الحرب الإسرائيلي عدّة اجتماعات طارئة تحت الأرض، وغابت تهديدات بنيامين نتنياهو “النّاريّة” بالرّد “السّاحق” في العُمُق الإيراني كُلِّيًّا، الأمر الذي يعكس حجم المأزق السياسيّ والعسكريّ والمعنويّ الإسرائيليّ غير المسبوق.
الحقائق بدأت تتكشّف، وتطفو على السّطح فيما يتعلّق بنتائج الضّربة الإيرانيّة التّاريخيّة وغير المسبوقة، فبعد “نعمة” الانتِصار السّاحق، والإجماع على أنّ الدّفاعات الأرضيّة الإسرائيليّة والأمريكيّة والبريطانيّة نجحت في اعتِراض الصّواريخ والمُسيّرات الإيرانيّة بنسبة 99 بالمئة، ها هي هذه النّسبة تتراجع إلى 84 بالمئة حسب خُبراء عسكريين نشرت تحليلاتهم مُعظم الصّحف ومحطّات التّلفزة في تل أبيب والقدس المُحتلّة، وفوق هذا وذاك أنّ 360 مُسيّرةً وصاروخًا باليستيًّا إيرانيًّا ضربت ثلاث قواعد (حرمون، نفاطيم، رامون)، وأحدثت أضرارًا كبيرة من بينها تدمير طائرة نقل عِملاقة من طِراز “إس 130″، وأحد مباني مُنشأة مفاعل ديمونا الذرّي.
***
الاعتِراف بانخِفاض نسبة الاعتِراض إلى 84 بالمئة يعني أنّ 16 بالمئة من الصّواريخ والمُسيّرات اخترقت حوائط الصّد لثلاث دُول عُظمى في قواعدها بالأردن وهي أمريكا وبريطانيا فرنسا، وهذه نسبة كافية لتدمير مدن إسرائيليّة وقتل عشرات الآلاف من الإسرائيليين لو أنّ إيران أرادت ذلك، واستخدمت مُسيّراتها وصواريخها المُتطوّرة ذات القُدرة التدميريّة العالية، مِثل صواريخ “سجّيل” ومداه 2500 كم ومُجهّز برأس حربي وزنه 1500 كيلوغرام، أو صاروخ “شهاب 3B” الذي يزيد مداه عن 2000 كم ومُجهّز برأسٍ حربيّ بوزن 700 كيلوغرام من المُتفجّرات، وصواريخ فرط صوت ذات الرّؤوس الانشِطاريّة، التي تقطع المسافة بأقل من 12 دقيقة.
صحيفة “نيويورك تايمز” المُقرّبة من البيت الأبيض أكّدت أنّ “المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين أخطأوا في تقدير عواقب قصف القنصليّة الإيرانيّة في دِمشق، واغتيال العميد محمد رضا زاهدي رئيس فيلق القدس في سورية ولبنان وفِلسطين، وستّة من مُستشاريه، ولم يتوقّعوا حجم الرّد الإيراني، وراهنوا على أنّ إيران لن تَرُد مُطلقًا، مثلما كانَ عليه الحال في ضرباتٍ سابقة سواءً في العُمُق الإيرانيّ أو في سورية، والفضْل في سُوءِ التّقدير هذا، يعود إلى الدّهاء الإيرانيّ وأدواته المُضلّلة المدروسة، والتّخفّي خلف استراتيجيّة الصّبر الاستِراتيجي.
نتنياهو المُتَغطرِس، والمُغرَم بالتّهديدات، بلع لسانه طِوال الأيّام التي تَلَتْ العمليّة الإيرانيّة التاريخيّة، وعاد لفتح مِلف الهُجوم على مدينة رفح، خاصَّةً بعد أن انهارت المُفاوضات في الدوحة والقاهرة للتوصّل إلى اتّفاق تهدئة “مُؤقّت” على ثلاثِ مراحل، والفضْل في ذلك يعود إلى حُسن تقدير ووعي قيادة حركة “حماس” في القطاع التي تشدّدت أكثر في مطالبها الأوّليّة في وقفٍ كامِلٍ ودائمٍ لإطلاق النّار وانسِحاب جميع القوّات الإسرائيليّة من القِطاع والسّماح بعودة النّازحين وبدء عمليّة الإعمار فورًا، فهذه القيادة تُريد تعميق الغرق الإسرائيلي في القطاع، ومُضاعفة خسائره البشريّة والمعنويّة، وتفاقم الخِلافات الداخليّة في صُفوفه.
كُلّما تأخّر الرّد على الهُجوم الإيراني، كُلّما انفضح العجز الاسرائيلي وانهار الرّدع، وتبخّرت الغطرسة، وتعزّز تلاحُم محور المُقاومة وقُدراته العمليّاتيّة والتقديريّة العالية، وتعمّقت جُذور المرحلة الإيرانيّة الانتقاليّة الجديدة من مرحلة الدّفاع وامتِصاص الضّربات “وكظْم الغيظ” إلى مرحلة الهُجوم، ونقل المعارك إلى قلبِ دولة الاحتِلال، وفي التّوقيت المُناسب جدًّا.
لم يَعُد هُناك أي مكان آمِن لمُستوطني دولة الاحتِلال ولأوّل مرّة مُنذ إنشائها قبل 75 عامًا، فالصّواريخ تهطل مِثل المطر على المُستوطنات في الجليل شِمالًا، والجيش الإسرائيلي يغرق في مُحيطٍ هادرٍ، صامِدٍ، مُقاتلٍ، اسمه قطاع غزة في الجنوب، أمّا الوسط المُحتل فكتائب الضفّة الغربيّة كفيلةٌ بالعناية به بحربِ الاستِنزاف التي تشنّها وِفق حِسابات دقيقة، ونتائج مُرعبة لأمنِ الاحتِلال واستِقراره.
الهُجوم المُدمّر الذي شنّته المُقاومة اللبنانيّة يوم أمس على قاعدةٍ إسرائيليّةٍ ضخمة في قرية “عرب العرامشة” بالطّائرات المُسيّرة المُتطوّرة، وقتل وإصابة أكثر من 20 ضابطًا وجُنديًّا إسرائيليًّا، في عمليّةٍ نوعيّة، هذا الهُجوم هو نقلةٌ استراتيجيّةٌ تحمل رسالةً “مُرعبةً” لدولة الاحتِلال تقول إنّ زمن القصف بصواريخ الكاتيوشا “القديمة” على مُستوطنات الجليل والحُدود مع لبنان قد ولّى، وحلّ مكانه زمن المُسيّرات وربّما حانَ الوقت للهُجوم بالصّواريخ الدّقيقة، والاقتِحام البرّي لكتائب الرّضوان للجليل الأعلى والأ
اختفاء نتنياهو وجِنرالاته الملحوظ، وكثرة اجتماعات مجلس حربه التي تعكس المثَل الذي يقول “أسْمَعُ جعجعةً ولا أرى طحنا”، كُلّها مُؤشّرات واضحة على حالة الارتِباك والرّعب السّائدة، وبِما يُؤكّد أنّ العدّ التنازليّ لزوال دولة الاحتِلال قد بدأ وبسُرعةٍ لم يتوقّعها أكثر المُتفائلين.
الجماهير العربيّة والإسلاميّة تعيش حالةً معنويّةً عالية، وتُسبّح بحَمْدِ المُقاومة وفصائلها وحاضِنتها الشعبيّة، والدّاعمين لها في إيران وسورية والعِراق واليمن ولبنان، وكان اللُه في عونِ مُعسكر دُول “سلام أبراهام”، قديمها وجديدها، التي ستدفع ثمنًا غاليًا إذا لم تُراجع سياساتها وتتخلّى عن الانخِراطِ في مُؤامرةِ “محور الاعتِدال” التي تُريد الولايات المتّحدة إحياءه هذه الأيّام بزعامة نتنياهو وغالانت، وبهدف كاذب اسمه الدفاع عنها والحيلولة دون سقوطها النهائي بفِعلِ البُعبع الإيرانيّ، في مُحاولةٍ لتِكرار وتوسيع منظومة حائِط الصَّدِّ الأمريكيّ في الأردن المشؤومة التي طَفَتْ على السّطح أثناء عمليّة “الوعد الصّادق” ليلة السّبت الماضي.. فمَا بعد هذه العمليّة التاريخيّة يختلف جذريًّا عن ما قبلها.. والأيّام بيننا.