مشروع التحرير الوطني الفلسطيني: قراءة من أجل التاريخ والمستقبل (1)
مشروع التحرير الوطني الفلسطيني: قراءة من أجل التاريخ والمستقبل (1)
مسعد عربيد وأسامة عمّوري
مقدمة لا بدّ منها
الدافع لهذه الكتابة هو تقديم قراءة للواقع الفلسطين خدمةً للجيل الفلسطيني والعربي الناشئ، من خلال قراءة الحاضر واستحضار حقائق الماضي ودروسة من أجل استشراف المستقبل وإسهاماً في الإجابة على سؤال: ما العمل؟
لا ننوي من هذه المراجعة التكرا ر ولا الدخول إلى دهاليز وجزئيات التطورات في الساحة الفلسطينية. بل، بعيداً عن هذا، نريد أن نقدم محاولة لفهم ما حدث وكيف وصلنا إلى ما نحن عليه، لأننا معنيون بفهم ما حصل من تخريبٍ في الوعي الشعبي. وبما لا يقل أهمية، نسعى إلى الإفادة من تجاربنا كي يستطيع شعبنا النهوض واستشراف المستقبل والمضي قدماً على درب تحرير فلسطين.
لقد كُتب في معركة “سيف القدس” وهبّة أيار 2021 الكثير وقيل الأكثر، غير أنه من أهم نتائجها أنها فرضت مراجعة وتقييم الوضع الفلسطيني برمته من أجل اتخاذ مسار جديد. لذا يجدر بنا أن نتوقف، ولو بشكلٍ مكثف، عند أهم تداعيات ونتائج هذين الحدثين المفصليين التي طالت أكثر من مستوى.
■ ■ ■
المستوى الفلسطيني
أ) مرحلة جديدة
لا شك أننا دخلنا مرحلة جديدة في كفاح الشعب الفلسطيني من أجل تحرير وطنه المحتل، وأن الهبة الأخيرة وفرت العديد من العوامل التي تسهم في بناء قوة المقاومة وولادة مناخات مؤاتية لهبات وإنتفاضات جديدة ومستمرة. ومن أهم سمات هذه المرحلة:
■ انكشاف دور ووظيفة السلطة الفلسطينية (إن كان هناك حاجة إلى المزيد من الانكشاف)
ومشاريع التسوية وإقامة الدولة الفلسطينية المزعومة واتفاقيات أوسلو “والمفاوضات” مع الكيان الصهيوني.
■ تعاظم قوى المقاومة وتراكم إنجازاتها وتطور أشكال المقاومة وقدراتها الفنية والميدانية.
■ التأكيد على ثبات شعبنا وقدرته على الصمود واجتراح وسائل المقاومة وأشكال الكفاح كسلاح فعّال ورادع وكجزءٍ من المعادلة الجديدة.
■ أثبتت هذه المعارك، كما تجارب الشعوب عبر التاريخ، أن سر الانتصار يكمن في مقاومة الاحتلال وحرب التحرير الشعبية طويلة المدى.
■ تعاظم ثقة الشعب والمجتمع الفلسطيني بالمقاومة التي أثبتت أنها هي التي تحميه، في حين تتآمر السلطة الفلسطينية مع المحتل الصهيوني على مناضليه وكل مَنْ يقاوم الاحتلال.
■ التأكيد على وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، تلك الوحدة التي طالما أرعبت الكيان الصهيوني منذ تأسيسه عام 1948. فقد ترابطت كافة أجزاء فلسطين التاريخية وتوحد شعبنا في كافة أماكن تواجده: الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة وأراضي احتلال 1948 والشتات.
■ على الرغم من أهمية المكانة الروحية والدينية للقدس وعلى واجب الكفاح من أجل حماية الأماكن المقدسة، فقد أكدّ شعبنا في جميع أجزاء فلسطين التاريخية على ضرورة الربط بين الحق الوطني، حق تحرير الوطن المحتل من النهر إلى البحر، من جهة، وحماية المقدسات كجزء من هذا الوطن ومكانتها الدينية والروحية والحضارية لدى شعوبنا وكافة شعوب العالم، من جهة أخرى.
ب) إشكالية الشرعية … والقيادة الفلسطينية
لقد أعادت معركة “سيف القدس” إلى الواجهة مفارقة مزمنة في تاريخنا: ففي حين كان موقف شعبنا واضحاً من تمسكه بأرضه ومقاومته للمشروع الصهيوني منذ بداية الغزوة الصهيونية لبلادنا في أواخر القرن التاسع عشر، نجد أن قياداته وفي مراحل متعددة من تاريخ كفاحه لم تكن أمينة على مصالحه وحقوقه ومشروعه في تحرير فلسطين.
وهذا يطرح أسئلة قد لا تريح الكثيرين:
■ لماذا لم يحقق النضال الفلسطيني ولو بعضاً من أهدافه رغم التضحيات وتراكم الإنجازات النضالية الممتدة على أكثر من قرنٍ من الزمن (هبّات وانتفاضات وثورات أعوام 1929، 1936-1939، 1965، 1987، 2000 وغيرها)؟
■ ولماذا لم يتمكن شعبنا من خلق قيادة مؤتمنة على قضيته ولها مصلحة حقيقية في تحرير الوطن المحتل؟
هذه الأسئلة لا تُغفل ولا تُقلل أبداً من هول جبهة الأعداء وتعدد قوى الثورة المضادة وجبروتها العسكري والاقتصادي والسياسي على مختلف الجبهات: الإمبريالية الغربية والصهيونية والرجعية العربية.
لا يختلف إثنان على أن معسكر الأعداء قوي. هذا صحيح. ولكنه صحيحٌ أيضاً أنه كان هناك فرص متاحة لشعبنا وبفضل كفاحه المديد لتغيير ميزان القوى وتجسيد إنجازات ملموسة، ولكن هذا لم يتحقق لأنه كان يتطلب قيادة واعية مخلصة أمينة تملك الرؤية والبرنامح والمعرفة، والأهم: المصلحة في التحرير وليس في الاستدوال وبناء طبقة حاكمة تسعى لإقامة “دولة” تحقق فيها مصالحها الطبقية والاقتصادية والسياسية على حساب تحرير الوطن.
غير أنه من الواضح أن القيادات التي هيمنت على القرار الفلسطيني لعقودٍ طويلة ظلت من حيث طبيعتها ومنبتها الطبقي والسياسي مكونة من طبقات وشرائح يمينية وكومبرادورية، وأخرى تابعة لقوى الدين السياسي. كما ظلت هذه القيادات، كما كانت، “فصائلية” في سياساتها حيث أن مصالحها تكمن في المحاصصة والمنافع الآنية، ولا تصبّ في تحرير الوطن المحتل ومصلحة الشعب وطبقاته الشعبية. وليس خافياً بعد هذه العقود الطويلة، أن حديث القيادات عن مشروع تحرير فلسطين والكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية طويلة الأمد، كان حديثاً نظرياً لا ينطلق من إيمان أو قناعات أو ممارسات حقيقية. أما فصائل “اليسار” فقد بقيت مستسلمة لليمين وخاضعة لتمويله وهيمنته على القرار الفلسطيني، ولم تملك إرادة تحدي سياساته الاستسلامية الكارثية ومناهضتها.
■ هذا كله يشير إلى ضرورة فرز جذري وواضح بين القيادة والشعب، بين القيادة التي تخلت عن مشروع التحرير منذ عقود، والشعب الذي تكمن مصلحته في تحرير الوطن المحتل، وهو ما يتطلب قيام قيادة وجبهة وطنية فلسطينية تقوم على أطرٍ تمثل شرائح وطنية وشعبية لها مصلحة في التحرير وتصنع القرار وتستثمر في وحدة كافة أجزاء الشعب الفلسطيني (قطاع غزة والضفة الغربية والاحتلال الأول عام 1948 والشتات.)
ج) أهلنا في فلسطين المحتلة عام 1948: ديمومة القضية الفلسطينية
خلافاً لحسابات العدو الصهيوني وتوقعاته، أثبتت معركة “سيف القدس” وهبّة أيّار أن قضية فلسطين لا تزال حية، وأن الأجيال الناشئة في المحتل عام 1948 – والتي لم ترى نكبة 1948 ولا احتلال 1967 ولا حتى اتفاقيات أوسلو (1993)، ولم تعش مراحل الاحتلال والاستيطان السابقة – لا تزال تحمل فلسطين في وعيها ووجدانها.
لقد سقطت كذبة: “الكبار يموتون والصغار ينسون”، وفشلت السردية الاستعمارية الصهيونية التي تقوم على فصل الفلسطينيين وتجزئتهم في مختلف أماكن تواجدهم. فنحن أمام جيلٍ نهض رغم الفقر والتهميش وانتشار المخدرات والجريمة والسلاح، نهض ليرفض مخططات الأسرلة ومحاولات الترويض والإخضاع وسياسات الاحتلال الصهيوني والاستيطان والتهويد والضم والتهجير القسري ومصادرة الأراض والإبادة المادية والبشرية للإنسان والمجتمع، وليؤكد سقوط أوهام دمج عرب فلسطين في المحتل عام 1948 في المجتمع الصهيوني.
كما أثبت هذا الجيل مغادرته للنضال “المطلبي والحقوقي” – والذي يختزل كفاح وتضحيات جماهير شعبنا في المحتل 1948 والذي روّجت له السياسات الصهونية السردية الاستعمارية والقيادات العربية في الكنيست الصهيوني – ليعانق النضال الوطني في سبيل تحرير الأرض المحتلة، وليؤكد أن جوهر الصراع هو “أرض فلسطين”.
■■■
لقد ركزنا أعلاه على المستجدات في الساحة الفلسطينية، ولكننا لا نستهين بالمتغيرات الجسيمة التي حدثت في المستويات الأخرى، وفيما يلي أهمها:
المستوى العربي
■ أكد حراك الجماهير العربية على سقوط الأوهام حول طبيعة الصراع، وأنه صراع عربي – صهيوني، وليس “فلسطينياً – إسرائيلياً”، وأن بوصلة الوعي الشعبي العربي ما زالت فلسطين، وما زالت قضيتها راسخة في عمق الوجدان العربي. ومن هنا نلحظتزايد الدعم الشعبي العربي ونهوض الشارع والحراك الشعبي اللذين صاحبا المزيد من التواصل بين الشعوب والقوى العربية الداعمة للكفاح الفلسطيني والمشاركة فيه، والتي لا بد من البناء عليها واستثمارها وتجذيرها.
■ كما أكد أن تطبيع القيادة الفلسطينية وبعض الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني والاعتراف به، لا مكان له في وعي شعوبنا ووجدانها.
المستوى الصهيوني
أسقطت الهبّة الأخيرة الأوهام حول أسطورة “العدو الذي لا يقهر”، وأظهرت ضعف الكيان الصهيوني وضعف القدرات القتالية لجيشه وتكرار هزائمه (2006، 2014 وغيرها)، وعجزه عن تحقيق “بنك أهدافه”، والأهم فشله في قراءة وتقديرات مؤسساته السياسية والاستراتيجية والأمنية والاستخبارية لقدرات المقاومة لدى شعبنا في كافة أماكن تواجده: الضفة الغربية وقطاع غزة وفلسطين المحتلة عام 1948 والشتات.
وسواء أقرّ العدو الصهيوني بذلك أو لم يقر، فقد أدرك تعاظم قدرة المقاومة ومخزونها الصاروخي وخطورتها على هزّ الكيان الصهيوني وأركانه الاستيطانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وفشل “قبته الحديدية” في التصدي لصورايخ المقاومة، ما يعنى انتقال الصراع إلى مرحلة نوعية جديدة.
المستوى الدولى
شعبياً: إحياء وتجديد الدعم الشعبي العالمي لنضال الشعب الفلسطيني وما رافقه من تحول هام في الإعلام العالمي.
رسمياً: فشل قوى وأنظمة الثورة المضادة في قراءة المتغيرا ت والتي تتمثل في صعود قوى ومحور المقاومة فلسطينياً وعربياً وإقليمياً؛ وانحدار وضعف الإمبريالية الغربية الأميركية والأوروبية مقابل صعود القوى المناهضة للهيمنة الأمركية والذي يتمثل في صعود روسيا والصين، وأن زمن “أميركا التي تمسك ب 99% من أوراق الحل” قد ولى إلى غير رجعة.
أسئلة المستقبل
إلى جانب هذه المستجدات الجسيمة، لا زالت الأسئلة تحوم حول المستقبل:
– مصير السلطة الفلسطينية و م.ت.ف. وما ستفعل قوى المقاومة بعد هدوء الجبهة العسكرية؟
– مَنْ يكون مصدر المرجعية للشعب الفلسطيني ومَنْ يمثله ويمثل شرعيه نضاله؟
– أين مشروع التحرير الوطني والثوابت الوطنية والقومية؟
– كيف نُبقي على المقاومة خياراً، وما هي الضمانة لاستثمار واستمرار المقاومة والهبّة والحراك؟ وكيف نضمن تراكم الإنجازات كي لا تضيع التضحيات والدماء كما حصل مراتٍ عديدة في الماضي؟