مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله الــسياسيّة والعسكريّة

أسعد أبو خليل

[1]

السبت 26 نيسان 2025


ليست هذه مرثيّة لحزب ما يزال موجوداً بقوّة (وهذا ما أكّده قبل أيّام، أمينُه العام الجديد)، وليست هذه بمنزلة مضبطة اتّهام من شخص غير حزبي يعيش في الغرب بعيداً من حِمم الطّائرات والصواريخ الأميركيّة.

وليست هذه دعوة لمحاسبة مَن دفعوا من دمهم ومالهم وسكنهم ثمناً للمواجهة مع إسرائيل. لكنّ الذي جرى كبير، وكبير جداً، والذي تعلّمنا منه في السابق أنّ غياب المراجعة في 1948 وفي السويس في 1956 وفي 1961 يوم الانفصال ومن 1967 (بعيداً من المراجعات الاستشراقيّة العنصريّة الذميمة التي صدرت في باب «النقد الذاتي»)، أو في 1982، عندما رفضت القيادة العَرَفاتيّة الاعتراف بالهزيمة فيه، ما أدّى إلى حلّ التنظيم العسكري للمقاومة الفلسطينيّة تمهيداً لاستسلام منظّمة التحرير في مسيرة أوسلو التي ما نزال نعاني منها.

هذه دعوة للمصارحة من قِبل كلّ المهتمّين لأنّ غير قرن من النِّضال لم يقرّبنا من فلسطين. والكلّ معنيّ بالإسهام لأنّ خطر إسرائيل يعنينا جميعاً ولا يعني فئة بعَينها أو حِزباً بعينه. لا سؤدد لنا ولا فلاحَ ولا حياة بوجود الكيان الاحتلالي بيننا. حتى عدم توافر الكهرباء في لبنان، يتأثّر بالمقاطعة التي يفرضها اللّوبي الإسرائيلي علينا. وسوريا بعد تغيّر النظام، ما تزال خاضعة لعقوبات يفرضها عليها اللّوبي الإسرائيلي من أجل الحصول على تنازلات تهمّ إسرائيل. إصلاح محطات الكهرباء في سوريا اليوم ممنوع بحُكم العقوبات التي لا تزال مفروضة.

والسبب الأوّل في تفوّق العدوّ العسكري والحربي (بعيداً من استنتاجات مدارس «النقد الذاتي») يكمنُ في الرعاية الغربيّة للكيان الإسرائيلي وجرائمه. في هذه الحرب، وقفَ الغرب (كلّ الغرب، بصرف النظر عن صوت لنائبة مساعد وزير في هذه الدولة الغربيّة أو تلك) وقفةً واحدة متراصّة إلى جانب حرب إبادة لم يسبق لها مثيل. هي هولوكوست حيّة على الهواء مباشرة.

في هولوكوست الحرب العالمية الثانية، لم يعرف العالَم حقيقة ما جرى إلّا بعد تحرير ضحايا المعتقلات النازيّة. تلك الصور ترسّخت في الذهنية الإنسانيّة، خصوصاً في الغرب (المسؤول الأوّل عن تلك الحرب المجنونة)، وبدلاً من أن تؤدّي إلى وقف المجازر وجرائم الحرب والإبادة أدّت إلى تصليب الدعم الغربي لدولة العدوان الإسرائيلي باسم الإنسانيّة وتكفيراً عن ذنوب الغرب المتورِّط.

هل أنّ هذا هو زمن المراجعة أم أنّنا ما نزال نعيش في أتون الحرب؟ هل هناك زمن للمراجعة وزمن للانكفاء النقدي؟ هل ننتظر الإذن قبل إصدار الأحكام، خصوصاً ممّن يمارس مهنة التعليق والتحليل والتنظير (من بُعد، كي أستبق مَن سيذكّرني بمكان إقامتي)؟ الحرب والعدوان الإسرائيلي مستمرّان وخُطَط التطهير العِرقي تُتداول في العلن وأمام الإعلام، والسفير الإماراتي في واشنطن (الوثيق الصلة باللّوبي الإسرائيلي) رأى (من دبي) أنّه لا بديل عن خطّة ترامب للتطهير العِرقي. العدوان والإبادة جاريان والمحاسبة والمراجعة قد تبدوان ترفاً فكريّاً إلّا إذا رأَينا أنّ استخلاص العِبر هو ضرورة من ضرورات المواجهة والدفاع عن النفس في وجه عدوان وحشي.

لا يتحمّل الحزب، وكلّ فريق المقاومة العربي، أن يؤجِّل عمليّة المراجعة والمحاسبة من أجل التقدّم إلى مرحلة أماميّة، وليس خلفيّة كما جرى مع منظمة التحرير بعد 1982. ياسر عرفات رفض كلّ نصائح المراجعة والدعوات للنقد الذاتي، وهو ليس وحيداً. كلّ الفصائل الفلسطينيّة، بما فيها الجبهة الشعبيّة والجبهة الديموقراطيّة (اللّتان ابتعدتا بصورة عامّة، خصوصاً بالمقارنة مع «فتح» و«الصاعقة»، عن الفساد) مسؤولة عن عدم تطبيق مبادئ النقد الذاتي ومراجعة الفكر والممارسة العسكرية والسياسيّة.

لا يمكن الفصل بين الممارسة العسكريّة والسياسيّة. الاتّحاد السوفياتي امتنع بصورة واضحة عن تزويد العرب بسلاح كان يمكن أن يقضي على وجود دولة إسرائيل. أي إنّ الاتحاد السوفياتي منح العرب السلاح تحت سقف منْعهم من النصر. والفصائل الفلسطينيّة ارتبطت بأنظمة عربيّة وتلقّت منهم التمويل مقابل شروط سياسيّة (وهذا يسري على فصائل «جبهة الرفْض»، بين 1974-1977).

منظّمة التحرير خرجت طرداً من عمّان ومن بيروت من دون إجراء مراجعة جديّة للتجربة في أيٍّ من الحالتَين. عرفات (المسؤول أكثر من أيّ قائد فلسطيني في القرن العشرين عن الحالة المزرية التي بلغتها حركة المقاومة الفلسطينيّة) كان يساوي بين المراجعة والنقد الذاتي وبين التشكيك والتخوين. لا، عرفات رفض مبدأ المحاسبة وكافأ المسؤولين عن الكارثة العسكريّة، خصوصاً الحاج إسماعيل، القائد العام لقوّات الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينيّة في صيف 1982. إسماعيل كان أوّل الفارّين من المعركة واحتفظ به عرفات ثم عيّنه مسؤولاً رفيعاً في مقاطعة أوسلو في الضفّة.

إنّ مستقبل حزب الله محفوف بمخاطر كبيرة، وقدرته على التعامل مع أخطاء المرحلة الماضية وزلّاتها وخطاياها ستقرّر فُرص نجاحه في النهوض والتطوُّر. النهوض والانطلاق ليس مضموناً في حياة تنظيمات التحرير والمقاومة

التمنّع عن تقبّل المراجعة مفهوم، لا بل منطقي. الحرب الوحشيّة جارية وجمهور المقاومة في حالة تفجّع وحزن شديدَين، كما إنّ أكثر من 200 ألف جنوبي لا يزالون من دون منازل، فيما العهد الجديد يمنع عنهم المال الإيراني من دون تقديم بدائل (تماماً كما يمنع عنهم السلاح الإيراني بأمر من إسرائيل من دون تقديم بدائل لهم أو للجيش اللّبناني). والإعلام المعادي (عربيّاً كان أم إسرائيليّاً أم غربيّاً) لا يشجّع على ثقافة نقْد الذات والمراجعة. أيّ تصويب، ولو مُلَطَّف، يمكن أن يتساوى في نظر مؤيّدي المقاومة مع الحملات الظالمة والمُغرضة التي تتعرّض لها حركات المقاومة.

وهذا كان صحيحاً في تجربة منظّمة التحرير، مع أنّ الإعلام العربي كان مؤيّداً لها في كلّ السنوات التي سبقت اجتياح العراق للكويت في 1990. اليوم، هناك تنسيق لجهود الإعلام والبروباغاندا بين «الناتو» وأنظمة الخليج وإسرائيل (عبر مكتب تنسيق في دبي). هذا الإعلام الحربي العدوّ يعزِّز النزوع نحو التستّر والاعتذاريّة والدفاع المطلق عن الذات. إنّ المصارحة ترفد جهود التصحيح التنظيمية والسياسيّة الجارية.

إنّ مستقبل حزب الله محفوف بمخاطر كبيرة، وقدرته على التعامل مع أخطاء المرحلة الماضية وزلّاتها وخطاياها ستقرّر فُرص نجاحه في النهوض والتطوُّر. النهوض والانطلاق ليسا مضمونين في حياة تنظيمات التحرير والمقاومة. منظمة التحرير (بكلّ فصائلها، بما فيها اليساريّة) تكلّست وترهّلت بعد 1982 لأنّها امتنعت عن التصحيح. هناك جمهور كبير للحزب، وهذا الجمهور ينتظر ويستحقّ إجابات عن تساؤلات كثيرة رافقت المرحلة الماضية. والأسئلة بعضُها سياسيّ الطابع، وبعضها أمني وبعضها عسكري. قد يقول قائل أو قائلة إنّه لا يمكن إجراء مراجعة من قِبل أشخاص غير خبراء، أو مِن قِبل الذين لا يملكون معلومات محدّدة وتفصيليّة من الداخل.

لكن: أَلَم يكن واضحاً أنّ العدوّ نفسه يمتلك من المعلومات عن الحزب (سياسيّاً وعسكريّاً وأمنيّاً) أكثر ممّا يمتلك البعض في جمهور الحزب؟ إنّ الحزب انطلق من حالة عدم وجود في 1982 وفي غضون أقلّ من عقدَين من الزمن، وتحت قيادة نصرالله التاريخيّة، تحوَّل إلى أكبر حزب سياسيّ في لبنان وكلّ العالم العربي. كما إنّ قوّته العسكريّة ضاهت قوّة الجيوش. انتصرت المقاومة في 2006 ضدّ أكبر جيش في المنطقة، وهذا دليل على التطوّر الهائل الذي بَلَغته قوّة الحزب العسكريّة. في كتابات ماو تسي تونغ العسكريّة (خصوصاً في كتابَيه «عن حرب العصابات» و«الحرب الطويلة الأمد») هناك تشديد على ضرورة التكيّف مع التطوّرات الميدانيّة وعلى الحاجة إلى التعامل بجدليّة مع الوضع المستجد.

هو دعا إلى مراجعة الوضع العسكري للحركة كما لوضعِ العدوّ. هذا ما وصفه بتحليل التناقضات خلال الحرب. في حرب العصابات، كان ماو من دُعاة «السيولة» أو «الانسيابيّة» في التعامل مع قوّات العدو. يقول: «عندما يتقدّم العدوّ، نتراجع. عندما يتوقّف العدوّ، ويخيِّم، نُزعجه. وعندما يتعب العدوّ، نهجم». لكن: ما فائدة هذا الكلام؟ الحزب شكّلَ مدرسة قتاليّة تاريخيّة في مقاومة جيش الاحتلال. له من الخبرة والعِبرة والحكمة في القتال ما لم يكن متوافراً للجيوش وحركات التحرّر من قبل.

إنّ أخطاء المرحلة السابقة لم تكن عسكريّة محض، ولم تكن ميدانيّة الطابع، بل كانت مجموعة من الأخطاء المتعلّقة بالممارسة السياسيّة والأمنيّة التي أعطت العدوّ مجالاً أوسع للانقضاض. ولقد وازى ماو بين الإصلاح السياسي والتطوّر العسكري. هو حارب (قبل النصر في 1949) ظواهر عدم الجدوى البيروقراطيّة والظواهر غير الثوريّة بالإضافة إلى ضرورة التصحيح التنظيمي عبر النقد الذاتي الداخلي.

لقد فتحت مقابلة نوّاف الموسوي الأخيرة المجال أمام بدء عمليّة إصلاح. لكنّ بعض ردود الفعل أَوحَت أنّ التقبّل لم يكن شاملاً. هناك من انتقده لتحميل الحزب المسؤوليّة. لكنْ: كيف يمكن مثلاً ألّا يطالب كلّ أعضاء الحزب بمحاسبة صارمة عن اغتيال نصرالله؟ كان الرجل أكبر عنصر قوّة في الحزب. لا يمكن نسْبُ كلّ جوانب التفوّق الإسرائيلي الأخير إلى عناصر القوّة الأميركيّة أو الذكاء الاصطناعي أو إلى أنّ العدوّ «تجاوز كلّ الخطوط الحمر».

إنّ موضوع تجاوز العدوّ لكلّ الخطوط الحمر يجب أن يكون معلوماً من قِبل أيّ متابع للقضيّة الفلسطينيّة ولكلّ دارس لتاريخها منذ الثلاثينيّات والمواجهة المباشرة بين العرب والصهاينة. الذكاء الاصطناعي لا قيمة له من دون توجيه بالذكاء الإنساني. يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى تلقيم معلومات بشرية. يستطيع الذكاء الاصطناعي، مثلاً، أن يطارد شخصاً ما، وأن يرصد صوته أو وجهه، لكنْ لا يستطيع أن يعرف هويّته أو دَوره من دون معلومات محدّدة يمدّه البشر بها. عندما تستعمل أيّ وسائل الذكاء الاصطناعي المفتوحة، مثل «تشات جي بي تي»، تكتشف قصور هذه الوسائل. هناك حدود للمعرفة لا يسدّها إلّا تلقيم جديد.

الاتّكال على تفسير الذكاء الاصطناعي أو التدخّل الأميركي إلى جانب إسرائيل يمكن أن يحوِّر الموضوع ويخفّف من المسؤوليّة الذاتيّة. الإعلام المصري في التعامل الأوّلي مع نتائج الهزيمة في 1967، أفرط في الإصرار على التدخّل الأميركي العسكري المباشر مع إسرائيل. هذه المرّة، كان الحزب يواجه بالفعل تدخّلاً أميركيّاً عسكريّاً مباشراً، بالإضافة إلى تدخّلات قوّات حلف شمال الأطلسي المشاركة في «يونيفيل».

والجيوش والاستخبارات العربيّة باتت سنداً لإسرائيل في حروبها ضدّ قوى المقاومة التي لا يسندها (فعليّاً) إلّا إيران. ولهذا السبب بالذات تتركّز كلّ الانتقادات والسُّخرية ضدّ النظام الإيراني. ترى إعلاميّات لبنان وإعلاميّيه يردّون (منتقدين أو ساخرين) بانتظام على كلّ تغريدة لخامنئي. لكنْ: هل يجرؤ هؤلاء على السُّخرية من مساعد نائب مستشار لأمير أو شيخ نِفطي أو غازٍ؟

(2)

حزب الجمهور أم حزب النُّخبة؟السبت 3 أيار 2025

يميّزُ عالِم السياسة الفرنسي، موريس دوفيرجيه (في كتابه «الأحزاب السياسيّة» الصادر في 1951) بين نوعَين من الأحزاب السياسيّة، ولم يكن يومها يتحدّث عن أحزاب منطقتنا العربيّة. النوع الأول، هو حزب الجمهور أو حزب الجماهير وهو حزب يتوجّه إلى الجمهور العام، وغالباً من مختلف الطبقات. وهذا الحزب يعتمد على عضويّة رخوة وعلى الهلامية التنظيميّة وغياب -أو عدم ضرورة- الانضباط الحزبي.

في هذا الأحزاب، تنبتُ الأجنحة لأنّه ليس من امتحان في الولاء الحزبي. وليس هناك في هذا النوع من الأحزاب عضويّة رسميّة محدّدة ودفْع اشتراكات منتظمة من قبل الأعضاء. حزب الجماهير يريد التأثير على المجتمع وتعبئة الناس من تحت والفوز بالانتخابات. ومثال هذه الصنف هو الأحزاب الغربيّة السائدة: يكون هناك حزبان يتنافسان على الجمهور نفسه، أو يضمنان قِسماً من الجمهور، ثم يتنافسان في المرحلة الأخيرة من الانتخابات على الوسطيّين الذين يمكن أن يؤيّدوا الحزب اللّيبرالي أو الحزب المحافظ بحسب القضيّة أو المرشحين أو الظرف الراهن.

أمّا النوع الثاني من الأحزاب، فهو حزب الكادر (أو حزب الكوادر) الذي يركّزُ على العضويّة الصلبة والصارمة وعلى العقيدة المتزمّتة والمُحدّدة (مثل الأحزاب الشيوعيّة والأحزاب الدينيّة). والتنظيم هنا ملتزم وصارم ويعتمد على السرّية في كثير من الأحيان (بحسب المجتمعات) أو على الانفصال عن الواقع الانتخابي؛ لأنّ الفوز ليس هدفه. التمويل هو من الأعضاء أنفسهم وليس من قلّة من الأثرياء كما في حالة حزب الجمهور (مثل الحزبَين هنا في أميركا).

لكن، نظريّاً، فإنّ حزب الجمهور مفروض أن يُموَّل من قِبل جمهور كبير من المؤيّدين، ما يجعله حرّاً من الارتهان لمصالح ماليّة، ولكنْ في الواقع، إنّ المجتمعات الرأسمالية تطورت بصورة باتت فيها الأحزاب السائدة تعتمد على عدد صغير من الأثرياء الكبار أو الشركات الكبرى لأنّ نفقات الانتخابات تزداد حجماً (بالمليارات في أميركا). الهدف المركزي لحزب الجمهور هو الفوز بالانتخابات، بينما الهدف لحزب الكادر هو كسْب الأعضاء، والمزيد من الأعضاء للتأثير على المجتمع برمّته من تحت.

الأحزاب الشيوعيّة واليساريّة الغربيّة مثال لأحزاب الكادر، أو أحزاب العقيدة. لأنّ هذا النوع من الأحزاب لا يكترث لكسْب الأصوات في الانتخابات بقدر ما يحرص على بناء تنظيم فعّال يمكن أن يؤثّر في الطبقة العاملة (أو هكذا كان التفكير تقليديّاً بعد الحرب العالميّة الثانيّة). والعضو يدفع اشتراكه ثمناً للعضوية كي يشعر أنّه مؤثّر وأنّ التنظيم غيرُ مرتهن للأثرياء أو لجهات ماليّة نافذة.

الأحزاب الجماهيريّة لا تكترث لبناء التنظيم. ليس هناك عضويّة (بمعنى حمْل بطاقات عضويّة في الحزب الجمهوري أو الديموقراطي) لأنّ الهدف هو كسْب الانتخابات. والمؤيّد (ليس من عضو) لا يشعر أنّه معني ببناء التنظيم بل يترك ذلك للنخبة المسيطرة والمُمَوِّلة. وهذا النوع من الأحزاب ليس له من عقيدة باستثناء الانضواء في خطٍّ عام يكون يساريّاً أو يمينيّاً بالمعنى العام. ويمكن أن يتغيَّر ذات اليمين وذات اليسار بناء على المصلحة الانتخابيّة. توني بلير وبيل كلنتون دفعا بحزب العمّال والديموقراطي (على التوالي) نحو اليمين وذلك لضمان الفوز بالانتخابات.

وليس لحزب الجمهور عقيدة محدّدة أو تثقيف حزبي. الأمر متروك بالكامل للمؤيّدين والمؤيّدات. في أحزاب الكادر، هناك طقوس وأنماط من التثقيف الحزبي المدروس وهناك مكتبة حزبيّة يتوجّب على العضو أن يمرّ فيها ويُمتحَن على مضمونها غالباً. الأحزاب الشيوعية في لبنان مثال على ذلك وإن كانت هذه الأحزاب تفتقر إلى مكتبة عقائدية خاصّة بمنطقتنا. منشورات «دار التقدّم» (بترجماتها السيّئة) كانت المنهج المُقرّر.

لكنْ يمكن للحزب الكادري أن يتحوّل إلى حزب جمهور أو العكس. حزب الخضر في ألمانيا كان حزباً نخبويّاً صغيراً (كادريّاً) يعتمد على العضوية الصارمة والعقيدة الجامدة. لكنّه بعد أن فاز في الانتخابات النيابية للمرّة الأولى في 1979 أصبح يتحوّل باضطراد إلى حزب النخبة، ما دفعه نحو اليمين. أصبح الهمّ، كما الحال في أحزاب الصنف هذا، الفوز بالانتخابات على حساب العقيدة. والحزب الشيوعي الفرنسي كان جماهيريّاً وله تمثيل في البرلمان، لكن بُنيته، بعد أن تعرّض لخسارة كبيرة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، تغيّرت وأصبح أكثر عقائديّة لأنّه لا يربح الانتخابات ولا حظّ له في الوصول إلى السلطة. عندها يسهل التمسّك بالعقيدة. أصبح الحزب كادريّاً بسبب سقوطه الذريع.

الحزب يجمع في داخله صفات من حزب الكادر وصفات من حزب الجمهور. وبقدر ما تحوّل الحزب إلى حزب الجمهور (أي الحزب الذي يحرص على الفوز بالانتخابات)، فإنّه خسر من سرّيته في العمل، والتي كانت أكبر ضمانة له ضدّ اختراقات العدوّ الإسرائيلي في البدايات


لا يمكن بسهولة تصنيف حزب الله عبر تاريخه في هذا النوع من الأحزاب. الحزب ليس كما الأحزاب الغربيّة لأنّ له صفات خاصّة به، وخاصّة بالسياق اللّبناني الذي عمل فيه. الحزب يجمع في داخله صفات من حزب الكادر وصفات من حزب الجمهور. وبقدر ما تحوّل الحزب إلى حزب الجمهور (أي الحزب الذي يحرص على الفوز بالانتخابات)، فإنّه خسر من سرّيته في العمل، والتي كانت أكبر ضمانة له ضدّ اختراقات العدوّ الإسرائيلي في البدايات.

كان مفاجئاً أن يعمد نعيم قاسم في آخر خطبة له إلى الحديث عن الانتخابات البلدية ودعوة الناس إلى المشاركة الكثيفة فيها، في الوقت الذي لا يزال الجنوب يرزح تحت الاحتلال الإسرائيلي وفي الوقت الذي تقوم فيه إسرائيل باغتيال من تشاء من عناصر الحزب وقادته في أيّ مكان من لبنان. كما إنّ فكرة إجراء الانتخابات في ظلّ الاحتلال تُضفي نوعاً من الشرعيّة (غير المقصودة، طبعاً) على الاحتلال الإسرائيلي والقبول بما يترتّب عليه.

هناك مئات الآلاف من الجنوبيّين الذين لا يستطيعون العودة إلى قراهم ومدنهم. تستطيع إسرائيل أن تؤثّر على المسار لأنّه ليس للحزب القدرة على التعبئة والتنظيم في الجنوب كما لدى جماعات تحظى بالتمويل الغربي أو الخليجي (الشيء نفسه يسري على الانتخابات النيابيّة الأخيرة في المغتربات حيثُ قبِلَ الحزب بصوابيّتها فيما إنّ عدداً من الدول الغربية تمنع أيّ تحرّك سياسي من قبل الحزب وتزجّ بالذي يقوم بها في السجون. كيف تتكافأ الفرص بين الأحزاب المتنافسة إذا كان بعضها ممنوعاً من التحرّك والعمل؟).

عندما خاض الحزب أوّل انتخابات له في عام 1992، كان يعلن انتقال قسم منه (القسم السياسي غير الجهادي) إلى صنف أحزاب الجمهور التي تسعى إلى الفوز بالانتخابات. وهذا النوع من الأحزاب، كما سلف، لا يحرص على التمسّك بالعقيدة. لكنّ الحزب فريد من نوعه ولا قدرة له على تغيير العقيدة أو التراخي في التمسّك بها. حاول الحزب أن يحافظ على الازدواجية (في فصل القِسم الجهادي عن القسم السياسي، وهذا الفصل رفضَته الدول الغربيّة باستثناء فرنسا والاتحاد الأوروبي اللذين يحافظان على علاقة مع الحزب).

ولا نعلم مدى انبعاث قرار الحزب بالمشاركة السياسية في الانتخابات في 1992 هل هي من الحزب نفسه أم من ضغوطات خارجيّة تتعلّق بمصالح الدولتَين اللّتَين أثّرتا في الحزب، أي النظام السوري بدرجة أُولى والنظام الإيراني بدرجة ثانية).

ومن المعروف أنّ قيادة الحزب وأعضاءه خاضوا نقاشات مستفيضة حول المشاركة في الانتخابات لأنّ الحزب كان لسنوات (منذ التأسيس) يرى أنّ النظام السياسي اللّبناني هو نظام طائفي فاسد وعقيم فيما إنّ الذين أيّدوا قرار المشاركة رأوا أنّ الانتخابات هي فرصة لتعريف الناس بالحزب ولكسْبه ثمار الفوز حتى لا يقتصر التمثيل السياسي النيابي على حركة «أمل» فقط، وكان ذلك في حقبة الصراع والتنافس بين الحركة والحزب. ولو قارنّا وفاضلنا بين النسقَين من الأحزاب، ما فائدة النسقَين وضررهما في تجربة حزب مقاومة؟

في حالة حزب الجمهور: فضائل حزب الجمهور أنّه يفيد في الفوز في الانتخابات ويوسّع من قاعدة الحزب حتى يستطيع أن يحصل على قِسم إضافي من المؤيّدين في فئة الأصدقاء والقريبين من الحزب. وحزب الجمهور يخرج من نطاق الأعضاء الرسميّين لأنّ جسم الأعضاء وحده لا يسمح بالفوز في الانتخابات. لكنّ الخروج من نطاق العضويّة يعرّض الحزب لأخطار جمّة لأنّه يمزج بين القِسم الجهادي السرّي وبين القِسم السياسي الظاهر.

وهذا يُسهِّل عمليّة مراقبة الحزب واختراقه من قِبل إسرائيل. إنّ عمليّة رصد بن لادن (الذي برع في الاختباء من مطاردة أميركا وتوقّف عن استعمال أيّ هاتف والإنترنت منذ عام 1998) لم تستطع الحصول على دليل أو وجود رقمي له فاكتفت بمراقبة الساعي الذي كان ينقل الرسائل بين أقسام قيادة «القاعدة». لا تستطيع أن تفتح نفسك أمام الجماهير وتحافظ على السرّية التي يقتضيها العمل المقاوم.

وهذا التحدّي فرض نفسه على كلّ حركات المقاومة العربيّة لأنّ الانفلاش التنظيمي يزيد عدد الأعضاء بصورة كبيرة خصوصاً أنّ المنافسة (الانتخابية أو النضاليّة) فرضت نفسها في حالة منظمة التحرير. لم يكن هناك انتخابات عامّة تجري في منظمة التحرير إلّا التنافس داخل المنظمة ومن قِبل أعضاء معيّنين كان على أشدّه. وكلّما زاد التمثيل زادت حصّة التمويل من قيادة المنظمة.

وفي حالة منظمة التحرير، يروي هاني الحسن لهيلينا كوبان في كتابها المرجعي عن منظّمة التحرير أنّ تنظيم «فتح» تغيّر جذريّاً بعد معركة «الكرامة» (التي سرقَ ياسر عرفات كلّ الفضل فيها لنفسه ولتنظيمه متناسياً دَور الجيش الأردني وتنظيمات فلسطينيّة أخرى) ودخلَت إليه الآلاف. قبل «الكرامة»، كانت الحركة تنتقي وتفحص الأعضاء، وكان على العضو المرشّح أن يحظى بتزكية من أعضاء آخرين معروفين.

كلّ هذا تغيّر. أصبحت منافسة العدد تحثّ التنظيمات على إهمال عنصر الاختيار والفرز الدقيق، والذي كان سائداً من قبل. ومِن المُجحف، الحديث عن «فتح» فقط في هذا الإطار لأنّ التوسّع الجماهيري (أو الانتقال من حزب الكادر السرّي إلى الحزب الجماهيري المُنفلش) أصاب كلّ فصائل منظمة التحرير خصوصاً في مرحلة لبنان والانفلاشيّة المعروفة. وهذا المرض يأتي دائماً على حساب السرّية في العمل.

إنّ اغتيال القادة في نيسان 1973 لا يدلّ فقط على تقصير وتواطؤ مفضوح من قِبل بعض أجهزة الأمن والجيش في لبنان، بل هو يدلّ على إهمال أمني فلسطيني فظيع لأنّهم كانوا يقطنون في أماكن معروفة وفي شارع فخم يندُر وجود مؤيّدين للثورة فيه. هل القدريّة هي المسؤولة عن إهمال أبسط الشروط الأمنيّة في الحفاظ على القادة خصوصاً أنّ بعضهم (كمال عدوان مثلاً) كان يمسك بملفّ العمليّات في الداخل الفلسطيني؟

والانفلاش الجماهيري يفيد في دعْم الاتّصال بين الحزب أو التنظيم والجماهير. التنظيم السرّي يبتعد عن الجماهير وإن كان الابتعاد يحمي التنظيم. من يصدّق أنّ حركة «فتح» في بداياتها كانت مثالاً للعمل السرّي. كان هناك صندوق بريدي مذكور في أعداد «فلسطيننا» (وهي النشرة المركزية الأولى للحركة) وكان يتلقّى طلبات العضويّة. طبعاً، العملية هذه لم تكن مضمونة أمنيّاً البتّة.

(3)

السبت 10 أيار 2025

حزب الجمهور أم حزب النُّخبة؟ (2)

لا يزال الحديثُ هنا عن إمكانيّة تصنيف نوع حزب الله في الأحزاب السياسيّة وتغيّر طبيعته ودَوره عبْر السنوات والعقود. الحزبُ الذي بدأ سرّياً ومُغلقاً، انفتحَ على المحيط اللّبناني وأصبح حزباً جماهيريّاً عريضاً، من أكبر الأحزاب العربيّة -ربّما في التاريخ المعاصر- (هو أكبر من الحزب الشيوعي السوداني في عزّه، أمّا حِزب البعث، فالمقارنة غير جائزة لأنّه حزب السلطة والعضوية شكليّة وتكون ضروريّة بهدف تسيير الأعمال أو الارتقاء في الوظائف والصفوف). كتبتُ مقالة عن حزب الله في مجلة «ميدل إيسترن ستاديز» في 1991 بعنوان: «أيديولوجية وممارسة حزب الله: أسلمة المبادئ اللّينينيّة التنظيميّة».

وكانت وجهة نظري أنّ الحزب (في مرحلته الأولى) قلّدَ التنظيم اللّينيني وهو ملائم جدّاً لحركة مقاومة وللحفاظ على السرّية المُطلَقة. لم يختلف تنظيم الحزب في الثمانينيّات وأوائل التسعينيّات عن التنظيمات الشيوعيّة من حيث تركيب الخلايا وتراتب الهيئات القياديّة، وإنْ بمسمّيات مختلفة (اللّجنة المركزية: هل هي «مجلس الشورى»؟ المكتب السياسي: هل هو «المجلس السياسي»؟). لا، هو كان أبرع في الحفاظ على السرّية من كلّ الأحزاب الشيوعيّة التي سبقت (أوراق فريد شهاب تكشف أنّ عضواً في المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللّبناني كان يكتب تقارير للمخابرات اللّبنانيّة، كما كان وليد قدّورة في اللّجنة المركزيّة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين يكتب تقارير للمكتب الثاني- ولغيره أيضاً-).

ولا شكّ أنّ التنظيم الأوّلي خدم الحزب لأنّه استطاع أن يقوم بعمله المقاوم من دون اختراقات من الأعداء الكُثُر. وكان الحزب في عهد أمين الجميّل يواجه مخابرات أميركا وإسرائيل والسعوديّة (التي شاركت في تمويل تفجير بئر العبد) والمخابرات اللّبنانية التي في عهد سيمون قسّيس استمرّت في عملها المرادف لعمل الموساد في لبنان. فعالية الحزب في المرحلة الأولى تؤكّد صوابية الخيار الحزبي التنظيمي الأول.

عام 1992 وحلول الانتخابات النيابيّة كان مفصليّاً؛ لأنّه كان على الحزب أن يقرّر إذا ما كان سيلتزم بقوانين النظام السياسي وتقاليده، والذي كان ينبذه ويهجوه في نشرة «العهد» بصورة دوريّة، أم إنّه سيبقى تحت الأرض. كان الحزب يُطلق أبشع النعوت والصفات على نظام عدّه طائفيّاً (لكنّ نقْد الحزب لطائفيّة النظام كان من منظور طائفي مضادّ وليس من منظور عَلماني معارض للطائفيّات).

والقرار بالمشاركة الانتخابيّة كان شبيهاً بقرار حركة «حماس» عندما قرّرت خوض الانتخابات بناء على مترتّبات أوسلو. نستطيع اليوم أن نجري مُراجعة لصوابية القرار (لـ«حماس»)، لأنّ لا حركة «فتح» ولا الإدارة الأميركيّة قبِلتا بنتائج الانتخابات الفلسطينيّة وكانتا تعدّ بالاشتراك مع محمد دحلان و«فتح» انقلاباً ضدّ «حماس» في غزّة، فقط لأنّها فازت بالانتخابات، على عكس رغبة إدارة بوش وتوقّعها. هنا استبقت «حماس» الانقلاب ضدّها بانقلاب وقائي ضدّ «فتح» ورعاتها في تل أبيب وواشنطن (لم يكتب عن الانقلاب الفتحاوي الفاشل إلّا ديفيد روز في مجلّة «فانيتي فير» في نيسان 2008 بعنوان «صدمة غزة»).

في عام 1992، كان الحزب خارجاً من صراع داخل الطائفة الشيعيّة مع «أمل»، كما كان يواجه توجّساً وعداءً من النظام السوري ومن معظم حلفاء النظام السوري في لبنان. رفيق الحريري وإعلامه (كما اليمين الموالي للخليج في إعلامهم) لم يتوقّف عن التآمر ضدّ الحزب منذ البدايات. لولا وقوف إميل لحّود بوجه خدّام وغازي كنعان كانت الدولة اللّبنانيّة في التسعينيّات في أول عهد الهراوي مستعدّة للقضاء على حزب الله عسكريّاً (طبعاً كان مشكوكاً فيه أن تنجح الدولة في القضاء على الحزب الذي تمرّس في قتال إسرائيل وقوّات حلف الأطلسي منذ الثمانينيات).

ومرحلة الانتخابات تزامنت مع مرحلة زعامة حسن نصرالله الذي نجح أيّما نجاح في إخراج الحزب من قوقعته وجعله حزباً يلقى التأييد في كلّ العالم العربي. غيّرَ نصرالله الكثير من المواقف العقائديّة ومن الممارسات التي شابت مرحلة صبحي الطفيلي (الذي أصبح من فريق التغيير و«الثورة» في لبنان). نصرالله عدّلَ في التعبير عن عقيدة الحزب وقبِلَ بالكيانية اللّبنانيّة (وردّد مرّة شعار بشير الجميّل عن مساحة لبنان، سألتُه مرّة عن ذلك وذكّرته أنّ الشعار أُطلقَ لتبنّي النتائج المُتوخّاة من الاجتياح الإسرائيلي قبل حدوثه).

وفي الموقف من الصهيونيّة، أوضح الحزب في وثيقته السياسيّة الأخيرة في 2009 أنّ عداءه موجّه ضدّ الصهيونيّة وليس ضدّ اليهود واليهوديّة، وهذا الموقف جديد على حزب إسلامي. شعبية الحزب زادت ولكنّ حجم أعدائه زاد أيضاً، واغتيال الحريري سمّم علاقة الحزب مع بيئته اللّبنانيّة والعربيّة. حرب تمّوز أعادت له وهجه، ولكنْ ليس لمدة طويلة. الكثير من اللّبنانيّين (بتأثير من مطبخ أميركا وإسرائيل والخليج) لامَ الحزب على كلّ الاغتيالات في لبنان، ولامَه حتى على تفجير المرفأ (حتى الأميركيّين الذين يرصدون أيّ خطأ من الحزب كي يشنّوا حملة ضدّه امتنعوا عن اتّهام الحزب بتفجير المرفأ وديفيد هيل برّأه منه في كتابه الأخير).

خيارات الحزب صعبة: هل يستمرّ في محاولة التوفيق بين هيكليّة حزب الكادر وهيكلية أوسع للحزب الجماهيري؟ أم يعود إلى الجذور حزباً سرّياً مُغلقاً ينصرف عن مشاريع السياسة الداخلية والنفايات والطاقة؟

ليس من الواضح أنّ الحزب الذي يخوض، على الأرجح، مراجعة نقديّة ذاتيّة غير علنيّة، سيعيدُ النظر بسياساته نحو المشاركة في النظام اللّبناني. وكبُرَ عبء الحزب في داخل النظام اللّبناني لأنه تورّطَ، أو ارتضى أن يتورّط، عميقاً في حماية النظام اللّبناني ورعايته. لم يخطئ المحتجّون في 2019 عندما رأوا في دَور الحزب في الأزمة رعايةً مباشرة ودفاعاً قويّاً عن النظام اللّبناني الفاسد وعن النظام المصرفي الملحق به. أصبح الحزب عرّاب رئيس الجمهوريّة والحكومة في آن. كان الحزب داخليّاً يتذرّع أنّه ما في اليد حيلة وأنّ هذا هو لبنان وأنّه ملتزم أوّلًا وأخيراً بالتحالف مع حركة أمل. لكنّ الحزب بات حارساً للنظام الذي كان يذمّه وينفي عنه شرعيّته.

الحزب أصبح حزباً جماهيريّاً وأصبح، كما يقول بشير سعادة، حزباً لبنانيّاً (وفي الصفة مديح ونقد في آن). هو حزب لبناني بمعنى أنّ قراراته عن لبنان كانت نابعة منه هو، لا من إيران ولا من سوريا (ونتنياهو أكّد ذلك عندما أعلن أنّ إسرائيل اكتشفت أنّ نصرالله هو زعيم المحور برمّته لا تابعاً لإيران). الحزب كان يخضع للقرار السوري قبل اغتيال الحريري، ولكنّه تحرّرَ كليّاً من هذه السطوة بعد 2005 وأصبح في القرار اللّبناني (وفي بعض السوري وحتى الإيراني) هو صانع القرار في الصراع مع إسرائيل.

قبل 2005، لم تكن مواقف الحزب متطابقة تماماً مع مواقف النظام السوري. كان هو يعارض رفيق الحريري فيما كان الثلاثي السوري (خدام-كنعان-شهابي) الذي يحكم لبنان يتلقّى الرشاوى المنتظمة من رفيق الحريري. هو دعمَ لحّود فيما كان الحريري هو المُفضّل عند حكّام سوريا. ولم يفترق النظام السوري مع الحريري إلّا على قرار التمديد لإميل لحّود الذي عارضه الثلاثي المُمَوَّل بسخاء من الحريري. واللّبننة تعني أيضاً تناقص المبدئيّة لأنّ ممارسة السياسة في لبنان تتطلّب نبْذَ المبدئيّة.

تصبح مكرهاً على الجلوس إلى طاولة واحدة مع أمثال أمين الجميّل وسمير جعجع (سألتُ نصرالله مرّة عن الحالة النفسيّة في ذلك فأجابني ببيت المتنبّي: «من نكدِ الدنيا على الحرّ أن يرى عدوّاً له ما من صداقته بدُّ»).

فرض الانخراط السياسي تغييراً في طبيعة دوره الداخلي وأخرج إلى العلن فصلاً بين العمل المقاوم والعمل السياسي النيابي والبلدي. تعلّم الحزب المساومة والمقايضة والمفاوضات والتنازلات. وهي في صلب عمل السياسة ولكنّها تتناقض مع العمل العسكري أو حتى العقائدي الذي انطلق الحزب منه. عرّضَ الحزب نفسه للمساءلة فيما كان يقوم بأعمال عسكريّة غيّرت من تاريخ المنطقة (ومن دون محاسبة أو مراجعة).

حُكمُ أمين الجميّل حرّمَ المقاومة وطارد المقاومين وسلّمهم إلى جيش الاحتلال الإسرائيلي. ينسى البعض أنّ حكم الجميّل باشر بتنفيذ بعض بنود اتّفاقيّة 17 أيّار قبل توقيعها (كيف ننسى أنّ غسان تويني كان «المنسّق العام» لاتفاقيّة 17 أيار، التي لا يزال إيلي سالم في كتابه الجديد «الفرص الضائعة» يدافع عنه -ولي عودة مفصّلة إليه-).

بدا الحزب فريداً في ذكوريّته في المجلس. كلّ الأحزاب ألِفت وجود النساء في الكتل النيابية إلّا الحزب. حركة «أمل» وزّرت نساء. سألتُ مرّة نصرالله عن سبب خلوّ قوائم الحزب من نساء. أجابني أنّ العمل النيابي يتطلّب تعاطياً مباشراً مع الناخبين، وأنّ ذلك أصعب على النساء. مع أنّ وجود النساء يوسّع نطاق خدمات الحزب وتلبيتهم لمطالب الناخبين والناخبات. نصرالله قال إنّ ذلك لا يمنع الناس أبداً من ممارسة العمل السياسي في أُطر الحزب المختلفة (مع أنّه لم يكن هناك وليس هناك على علمي من نساء في المجالس القيادية للحزب). تضاربت متطلّبات العمل العسكري مع الوجود السياسي للحزب. وتفاقم ذلك بعد دخول الحزب في الحكومات.

الحزب لم يعرقل الحريريّة. كان فريق لحّود أشدّ معارضة للخطط الاقتصاديّة للحريري من الحزب وحتى من سليم الحصّ في حينه. الحزب يذكّرُ أنّه تحفّظ على بيانات الحريري الوزاريّة ولكنّ تمثيله في الحكومات بعد 2005 حرمه من سمعة التعفّف، وكلّفه ثمن المشاركة من مصداقيّته ومشروعيّته كحركة مقاومة. التناقض لا يزال ظاهراً. الحزب اليوم يشارك عبر وزراء لم يخترهم هو في الحكم (فضلو خوري اختارهم له) فيما يصول وزراء القوّات على المنابر ويجاهرون بتعاطفهم مع الموقف الإسرائيلي.

خيارات الحزب صعبة: هل يستمرّ في محاولة التوفيق بين هيكليّة حزب الكادر وهيكلية أوسع للحزب الجماهيري؟ أم يعود إلى الجذور حزباً سرّياً مُغلقاً ينصرف عن مشاريع السياسة الداخلية والنفايات والطاقة؟ الخروقات التي أصابت الحزب تفترض انكفاء من قِبل الحزب عن العمل الجماهيري العلني مع أنّه لا دليل على ذلك بعد. على العكس، الحزب يتصرّف أنّ الأولويّة تقطيع المرحلة كي يعود كل شيء على ما كان، ويعود الحزب إلى نفوذه السابق.

لكن المرحلة تغيّرت. لا عودة إلى ما كان. الضابط الأميركي في اللّجنة العسكرية لا يقلّ نفوذاً وسلطة عن غازي كنعان في زمانه. لم يستطع الحزب تقديم أداء مميّز في الحكم، وهذا عكْس أدائه العسكري حتى في الحرب الأخيرة. بقي الحزب يمنع إسرائيل من التقدّم فيما كان مُثخناً بالجراح وفيما فقَد أبرز قادته. في السياسة، تحوّل إلى فريق حُكم طائفي يصارع الخصوم في الحكم وفي خارجه.

التنظيم اليوم يواجه أخطر معضلة منذ التأسيس. يخضع لاتّفاقيّة وقْف نار تراعاها الحكومة وبإشراف مباشر من أقرب حلفاء إسرائيل، كَحَكَم على التنفيذ. الرأي العام اللّبناني يبدو ميّالاً إلى النظام اللّبناني الجديد، فيما يخرق الإجماع الشيعي التراصّ خارج الطائفة. التحدّيات أمام الحزب هي الاختيار في صنف التطوّر الحزبي اللّاحق: هل يكون سرّياً مغلقاً لينينيّاً أم جماهيريّاً مفتوحاً؟ الخيار الثاني يعرّض الحزب لمزيد من الاختراقات ويعرقل عمليات إعادة البناء الجارية. الهَمّ الانتخابي والبلدي سيشجّع الحزب على الحفاظ على الصنفَين في البنية الحزبيّة. لكنّ المرحلة هذه لا تحتمل التقاط الأنفاس. والتقاط الأنفاس أمام الجماهير (والأعداء) ضارّ.

* كاتب عربي
{@asadabukhalil} حسابه على إكس

:::::

المصدر: “الأخبار”

_________

Al Enteshar Newspaper

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *