ماذا وراء الرّسالة التصعيديّة “المُفاجئة” للقِيادة المصريّة الدّاعمة للقضيّة الفِلسطينيّة والاستِعداد لتقديم كُل الدّعم لنُصرَتها؟ وكيف جاء الرّد الإسرائيلي؟ وهل سيكون عدم الانسِحاب من محور فيلادلفيا وتجويع القطاع الاختبار الأوّل؟

 ماذا وراء الرّسالة التصعيديّة “المُفاجئة” للقِيادة المصريّة الدّاعمة للقضيّة الفِلسطينيّة والاستِعداد لتقديم كُل الدّعم لنُصرَتها؟ وكيف جاء الرّد الإسرائيلي؟ وهل سيكون عدم الانسِحاب من محور فيلادلفيا وتجويع القطاع الاختبار الأوّل؟

عبد الباري عطوان

عبد الباري عطوان
من أهم الفقرات التي وردت في كتاب “الحرب” للصّحافي الأمريكي بوب ودورد تلك التي تقول “إنّ الرئيس عبد الفتاح السيسي أبلغ وزير الخارجيّة الامريكي السّابق أنتوني بلينكن في آخر زيارة له للقاهرة قبيل خُروجه من السّلطة، وبالتحديد في تشرين أوّل (أكتوبر) عام 2024 “أنه كرئيس جمهوريّة لمِصر يُركّز على هدفين: الأوّل، الحفاظ على اتّفاقات كامب ديفيد، والثاني رفض ومُقاومة أي مُحاولة لتهجير أكثر من مِليونيّ فِلسطيني من قطاع غزة إلى مِصر”.
تذكّرت هذه الفقرة الواردة في الكتاب المذكور وما يجري حاليًّا من تطوّراتٍ على السّاحتين المِصريّة والإسرائيليّة لعدّة أسباب:

الأوّل: رفض السّلطات المِصريّة “الصّلب” لجميع الضّغوط الأمريكيّة لتطبيق خطّة الرئيس الأمريكي ترامب لإفراغ قطاع غزة من سكّانه وتحويله إلى “ريفييرا” الشّرق الأوسط، ولكن للسيّاح الإسرائيليين والعالميين وتجّار العقارات الأمريكيين، وبعض اليهود منهم خاصّة.
الثاني: عدم تلبية الرئيس السيسي لدعوةٍ من الرئيس ترامب لزيارة البيت الأبيض لمُناقشة مشروع التّهجير المذكور رغم الضّغوط والتّهديدات بوقف المُساعدات، وحسنًا فعل، لأنّه كان سيُواجه “تطاولًا” ربّما أكثر وقاحة لمثل ذلك الذي حدث للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، فمن يرفض طلب رئيس أمريكي مُتهوّر ومُتغطرس مِثل دونالد ترامب في زمن الانهيار العربي الحالي.

الثالث: الحملات الإعلاميّة والتّسريبات الصّحافيّة التي تطفح بها وسائل الاتصال الإسرائيليّة هذه الأيّام ضدّ مِصر وجيشها وقيادتها، وعلى ألسنة مسؤولين عسكريين إسرائيليين من الصّف الأوّل مِثل هرتسي هاليفي رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي المطرود، وتُؤكّد المخاوف من قُدرات مِصر العسكريّة، وتعاظُم قوّة جيشها، وإنفاق مِئات الملايين من الدولارات سنويًّا لتجهيزه بمعدّاتٍ وأسلحةٍ حديثة مُتطوّرة.
الرابع والأهم: الخطاب “النّاري” ولهجته غير المسبوقة ومُنذ عشرات السّنوات، الذي ألقاهُ اليوم الرئيس عبد الفتاح السيسي بمُناسبة يوم الشّهيد وفاجأ الجميع، سواءً الحُضور أو مُتابعيه على الشّاشات، عندما قال “فِلسطين قضيّة مِصر الأولى التي لن نُفرّط فيها مُطلقًا، وسنُقدّم للفِلسطينيين كُل عمل يُساندهم في معركة البقاء والمصير”، وأضاف “جئت إلى هذا الاحتفال لإرسال رسالة إلى أصحاب العطاء من شُهدائنا الأبرار من أجل بقاء هذ الوطن والحِفاظ على مُقدّرات شعبنا العظيم التي تُعبّر بجلاءٍ عن إرادةِ هذه الأُمّة وتاريخها بأنّها قادرة وقاهرة لكُلّ مانع يقف حاجزًا أمام تحقيق أمنها وسلامتها وريادتها، وأنّ لهذا الوطن رجالًا صنعوا المُستحيل، وحقّقوا لمِصر صُمودًا في الماضي والحاضر”.


ما جاء في هذه النّقاط الأربع، والنّغمة التصعيديّة الجديدة لخطاب الرئيس السيسي المذكور الذي اختار إلقاءه في هذه المُناسبة الاحتفاليّة بشُهداء مِصر التي تتصادف ذكراها من حُسن الطّالع مع انتصار حرب العاشر من رمضان عام 1973، كلّها تعكس مُؤشّرات تُؤكّد وتُوضّح بداية توتّر في العلاقات المِصريّة- الإسرائيليّة، والمِصريّة الأمريكيّة، وتوجّها جديدا يتبلور حول مُحاولات للدّولة المِصريّة لاستعادة ريادتها وقيادتها، وأحد أبرز ملامحها عقد القمّة العربيّة الطّارئة الأخيرة في القاهرة رُغم تحفّظات البعض على نتائجها.
هُناك تحدّيان رئيسيّان يُواجهان القيادة المِصريّة في الوقتِ الرّاهن:

الأوّل: رفض دولة الاحتلال الإسرائيلي الانسحاب من محور صلاح الدين على الحُدود المِصريّة الفِلسطينيّة (قطاع غزة) تطبيقًا للمرحلةِ الأولى لاتّفاق وقف إطلاق النّار، وبدء المرحلة الثانية التي تنصّ على الانسحاب الكامل ووقف إطلاق النّار بشكلٍ دائم، الأمر الذي يُشكّل تحدِّيًا حقيقيًّا لمِصر وقيادتها وجيشها.
الثاني: إغلاق جميع المعابر إلى القطاع مجددًا بما فيها معبر رفح، ومنع وصول جميع المُساعدات الإنسانيّة، وإعلان حرب التّجويع على مِليونين ونِصف المِليون من أبنائه، ممّا يعني عودة حرب الإبادة بصُورةٍ دائمة، فهل تصمت القيادة المِصريّة؟

نحنُ بسردنا هذا لا نتحدّث عن حربٍ وشيكة بين الجيشين المِصري والإسرائيلي، ونُخفّض سقف توقّعاتنا، ولكنّ احتمالات هذه الحرب تظل غير مُستبعدة من وجهة نظر الكثير من القيادات العسكريّة الإسرائيليّة التي تملك المعلومات المُرجّحة التي حصلوا عليها بحُكم موقعهم في المُؤسّسة العسكريّة، وجميع الحُروب تحدث فجأةً على أيّ حال.
الجنرال يهودا بلانغا الرئيس السّابق لمجلس الأمن القومي الإسرائيلي أكّد في مقالٍ نشره في صحيفة “هآرتس” الإسرائيليّة قبل يومين إنّ مِصر بَنَتْ 60 معبرًا من الجُسور والأنفاق تحت قناة السويس وفوقها مُنذ عام 2004، وأنشأت عشرات مُستودعات الذّخيرة، ومواد التّخزين، والوقود تحت الأرض في سيناء، وأضاف أنّ الجيش المِصري يحتل المرتبة 11 عالميًّا، قُوّةً وتِعدادًا وتسليحًا بما في ذلك قوّة جويّة مُكوّنة من 600 طائرة حربيّة من بينها 350 مُقاتلة حديثة، و3500 دبّابة، و460 ألف جُندي نظامي، و480 ألف جُندي احتياط، وأشار إلى أنّ “الادّعاء” بأنّ هذه القوّة العسكريّة تهدف إلى مُواجهة أخطار سدّ النّهضة الإثيوبي، أو حركة “داعش” في سيناء ادّعاءات مُضلّلة، فالهدف هو إسرائيل في الحاضر والمُستقبل، التي ما زالت هي العدوّ الأكبر في عقيدة الجيش المِصري القتاليّة، ويحتل هذا التّوصيف المساحات الأكبر في وسائل الإعلام، والنّظام التّعليمي في المدارس والجامعات.


البعض يُجادل، سواءً داخِل مِصر أو في الوطن العربي، وهذا من حقّه، بأنّ مِصر تُعطي الأولويّة للأمن القومي المِصري، وجيشها يتحدّث للدّفاع عنها، وحماية مصالحها، وهذا ينطوي على الكثير من الصحّة، وما الخطأ في ذلك، أليس جميع الدّول العربيّة تتبنّى النّهج نفسه، ولكن علينا التّذكير بأنّنا خسرنا جميع الجُيوش العربيّة كنتيجةٍ للمُؤامرات الصهيونيّة والحُروب الأمريكيّة، ونحنُ نتحدّث هُنا عن تفكيك الجيشين العِراقي والسوري، وتكبيل الأردني بالتّطبيع وباتّفاقاتٍ عسكريّة، وإضعاف المُقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة بعد مُؤامرة البيجرات، والقصف الإبادي والسجّادي للجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبيّة، واغتيال جميع قادة الصّف الأوّل وعلى رأسهم سيّد الشّهداء حسن نصر الله، ولهذا لم يبق لنا حتّى الآن إلّا الجيش المِصري، ويبدو أنّ الصّبر الاستراتيجي المِصري اقترب من الوصول إلى نهايته بسبب الاستِفزازات الإسرائيليّة المُتصاعدة، أو هذا ما نأمله، ولا بُدّ من الاعتِراف بأنّ منع تهجير أهلنا في قطاع غزة حتّى الآن هو إنجازٌ كبير، وقد يكون بداية إنجازات أُخرى قادمة من مِصر التي خاضت أربع حُروب نُصرةً للقضيّة الفِلسطينيّة قدّمت خِلالها آلاف الشّهداء، وتعرّضت قناتها للتّدمير أثناء حرب الاستِنزاف الخامسة.. وتفاءلوا بالشّيء تجدوه.. والأيّام بيننا.

Al Enteshar Newspaper

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *