قصة قصيرة كتبتها في زنزانة بسجن تيرمنال ايلاند في سان بيدرو كاليفورنيا في 3 شباط 1987. تنشر للمرة الاولى…دموع عنترة
مشيل شحادة
لم ارغب بالخروج اليوم. لقد سئمت من سيم الحراس الكالحة. أحيانا كثيرة اشعر بالعطف عليهم. انهم سجناء أكثر من المساجين. السجناء يأتون ويذهبون، وهم دوما بين الجدران، يأكلون ويشربون ويخدمون المساجين.. اليوم يصادف الحادي عشر منذ سجنا، انا وخمسة من رفاقي. أسبوع اخر على موعد المحاكمة الأول.
نظرت الى الحارس الذي يترقب وضع السلاسل على ايدي ورجلي استعدادا للخروج الى الساحة لتمضية ساعة في الهواء الطلق مرة كل يوم. نظرت الى عينيه فغض الطرف خجلا، كأنه يدري ما الخطب، اننا هنا ظلما دون أي سبب. ابتسمت وشعرت انه سجيني وليس العكس. انتابني شعور بالذنب من تفكيري هذا. هذا المسكين في وضع لا يحسد عليه. نحن معا ضحايا هذا النظام. لو كان عنده خيار اخر لما اختار ان يكون هنا. هو هنا من اجل لقمة العيش. معظمهم من عائلات فقيرة.
خرج رفاقي للساحة وبقيت انا في الزنزانة وحيدا. رفيقي في الزنزانة ايمن، أيضا قرر الخروج. كنا ستة في ثلاث زنازين متجاورة، اثنين لكل واحدة. ساعة في الهواء الطلق. كانوا يضعونا مفصولين في ثلاث ملاعب لكرة السلة، متجاورين ومفصولين بسياج عال من الشبك المقوى. لم يسمحوا ان نخرج الى الساحة الرئيسية مع المساجين الاخرين، لأنهم اعتبرونا خطرا داهما على البشرية، بما فيهم المساجين المجرمين. ارتحنا كثيرا لهذا القرار بالرغم من عنصريته، لأننا كنا مرتعبين من المساجين المجرمين، ومن الحكايات التي سمعناها والأفلام التي شاهدناها عن السجون الامريكية، وخصوصا هذا السجن ذو الحراسة القصوى.
خرج رفاقي لتمضية ساعتهم خارجا. ساعة في الهواء الطلق، كأنهم يقصدون ان نشم رائحة الحرية، ثم يعيدونا الى الزنزانة ليذكرونا مما نحن محرومين منه. اطفئت الضوء وتمددت على التخت الخشبي بفراشه الذي لا يحمي من قسوة الخشب. لماذا أصبح الفلسطيني مصدر رعب لهم فقط لكونه فلسطينيا؟ ابتسمت في الظلام. انتابني شعور بالفخر كوني فلسطينيا، وانتابني شعور بالغرور كوني مصدر رعب لهم.
لا أستطيع ان افهم ما حدث في تلك اللحظة. ضوء غريب برتقالي اللون ملأ الغرفة. ارتعبت. اردت النهوض والهرب بعيدا، ولكني تذكرت، الى اين. استجمعت رباطة جأشي بعد ان خطرت لي فكرة انها حيلة. يريدون إرهابي. صممت على افشال محاولتهم. احتفظ بأعصابك هادئة وقوية، حثثت نفسي.
ما حدث لاحقا جعلني أنسى قراري بالهدوء وأفقد اعصابي بشكل كامل. ما تبدى امامي جعلني أطلق صرخة لم تتعد شفتاي، وبانت كالحشرجة او الانين.
انشق حائط الزنزانة على مصراعيه ودخل منه شخص ضخم، لم أر أضخم منه ابدا. كان يلبس لباسا بدويا، له لحية جعداء، على راسه خرقة بيضاء مربوطة بأخرى حول رأسه، ليست كما الفت العقال. لم يحرك ساكنا. وكأن بقوة سحرية بقيت متسمرا به. لم أدر هل ما اراه حقيقة ام مجرد هذيان؟ هل فقدت عقلي بسبب الوحدة؟ هل جننت؟ لم أحرك ساكنا.
وقف الشبح امامي ثم ابتسم.
-أني اسف كل الأسف يا أبا إبراهيم على ازعاجك هكذا. قال بلطف لا يتناسب مع مظهرة الجبار. قالها بلغة فصحة لم اعهدها.
بعد محاولتين عقيمتين استطعت ان أجد صوتي.
-من انت وماذا تريد مني، وكيف عرفت اسمي؟ سألت بخوف.
-انا عنتر بن شداد العبسي، أجاب بكل فخر. ارغب الا في مساعدتك. أردف بلهجة الواثق بنفسه.
-كيف ستساعدني إذا كنت لا اعرف ان كنت حقيقة ام مجرد صورة من صنع خيالي. ثم، إني لا أؤمن بالأشباح فكيف سأفسرك لنفسي، وكيف سأتعامل معك؟
توقفت عن الكلام واغمضت عيناي لعل هذا الحلم المزعج يتوقف. يا للداهية، ماذا افعل؟ انني أتكلم مع نفسي.
فتحت عيناي. الشبح لا يزال واقفا امامي مبتسما. نظرت الى شباك الزنزانة قلقا لعل أحد يأتي وينقذني من هذا الهذيان.
-اسمع، لنفرض جدلا، انه صحيح ما تدعيه، وإنك الفارس العربي عنتر بن شداد، ماذا تريد مني، لماذا ظهرت لي انا بالذات، ولماذا تريد مساعدتي، ولماذا …
فقاطعني مبتسما. ويحك، أنا لكل اسئلتك مجيب، وسأفسر كل أفعالي. ما عليك الا ان تهدأ وان تصغي لما سأقول. لقد اخترتك بالذات لإنك عبسي. جدك، أبو عتيبة، هاجر من قبيلتنا هربا من ثار عليه بعد ان قتل أحد أبناء القبيلة. كان لا يزال صغيرا بالسن، وتزوج من فتاة يمنية، وهاجر شمالا نحو الغساسنة، وانت من نسله.
-لم أعرف ذلك قبلا. قلت متعجبا.
جذوري تعود الى بني عبس! بدأت اشعر براحة غريبة. كأني تأكدت من صفو عروبتي. وجدت نفسي وجه لوجه امام شوفينيتي.
-اما لماذا اريد مساعدتك، فالأحسن ان تأتي معي لأريك بأم عينيك. ثق بي ولا تسأل. قالها بحنية.
كيف يريدني ان اذهب معه؟ كيف؟ انا هنا بسجن بحراسة قصوى. لا يمكن ان اترك رفاقي بالسجن وحدهم. ثم ان هربت سأؤكد اتهاماتهم لنا. لا، هذا لا ينفع.
يا إلهي، من المؤكد انني جننت. كيف سأخرج من بين هذه الجدران؟ وكيف سأخبر رفاقي عما يحدث؟ لا بد انهم سيظنون انني معتوه. السجن قد عملني مجنونا. قررت ان استمر باللعبة لأرى اين ستأخذني.
لبست حذائي وتقدمت نحو عنترة مترددا. لا أدرى ماذا افعل وكيف اتصرف. ولكنه اخذ زمام المبادرة، امسك بيدي واستدار نحو الجدار ومشى، وانا معه. توقعت بين لحظة وأخرى ان تنقذني خبطة رأسي بالجدار من هذا الحلم المزعج. ولدهشتي، اخترقت الجدار كأنه سراب من ضوء. ورأيت نفسي بساحة السجن المليئة بالمساجين، يتمشون بكسل، يعرضون وجوهم الكالحة من غياهب السجن لأشعة الشمس المشرقة. لم يلتفت أي منهم الينا او اعطى إشارة كأنهم يشعرون بوجودنا.
لم اجرؤ على السؤال. عندما وصلنا الى اخر الساحة، كان هناك حصان ابيض بالغ الجمال والروعة يقف متباهيا ينتظر فارسه المغوار.
-ستركب الحصان معي. لم اجلب حصانا معي حصانا لك، ولكن الابجر قادر على حملنا الاثنين معا. قال شارحا.
-تعلمت بكتب التاريخ في المدرسة ان حصانك، الابجر، كان اسود وليس ابيض. قلت متعجبا.
-ليس كل ما تقرأونه بكتب التاريخ صحيحا. اجاب بحرقة.
تلمست لدهشتي ان بين كنفات كلامه حزن دفين يحاول كبته.
وصلنا في تلك اللحظة الى الحصان. اعتلاه عنتر بخفة فائقة، وجاهدت انا للركوب خلفه. بلكزة من قدمي عنتر، قفز الحصان قفزة اخترقت السحب. ثم هبط وعيناي مغمضتان من الهلع.
فتحت عيناي كنا في مدينة نيويورك الامريكية. وقفزة أخرى في اسبانيا، وأخرى نحو هدفنا.
هبطنا في ارض خضراء، وديانها خضراء، جبالها بعضها مغطاة بأشجار الزيتون وبعضها جرداء بنية اللون. من الغرب بحر بزرقة عميقة تعكس اشعة الشمس كحبات اللؤلؤ. منظر يبهر الأنظار. ولكن كان هناك نوعا من السكون الحزين. شعور بالوحدة يخيم على كل المكان.
الاغرب انه لم ار أحد من الناس هناك. كل ما كنت أحاول سؤال عنتر، كان يشير لي بالسكوت. بعد ان تجولنا بالمكان لفترة غير قصيرة، لم اعد احتمل السكوت.
-لماذا انا هنا؟ قلت صارخا.
-اين نحن؟ اريد العودة. هذا المكان كئيب ويجعلني اشعر بالبكاء. لا اريد البقاء هنا.
التفت الي عنتر بحدة جعلتني اشعر بالرهبة. هذه المرة الأولى التي أرى بها الغضب في وجهه.
-هذه مصيبتكم أيها العرب. معظمكم يتكلم عن حب فلسطين، والتضحية من اجل فلسطين، ولا يوجد بينكم الا قليلون ممن أحبوها، وضحوا من اجلها. انت والكثيرون، لا تريدون حتى البقاء بها لأكثر من ساعة. تسألون دائما ما سبب المأساة. لو تعمق كل منكم في دواخله، يصدق لفترة مع نفسه، لاكتشف حقيقة جبنه. كل يختبئ وراء حب نفسه بكلامه عن حب فلسطين. كان صوته مليء
بالخدلان والحزن والخيبة.
شعرت بالخزي والعار. نظرت اليه.
-لم اعرف ان هذه فلسطين، والا لما …
. قاطعني بنفس الحدة
-هذا لإنك لا تريد الرؤية والمعرفة. لا تريد السمع، لو توقفت لحظة عن مخاطبة نفسك والاحساس بمشاعرك لسمعت صوت الأرض والشجر والينابيع تخبرك عنها.
-ولكن اين القرى، اين المدن، اين الناس، اين قوات الاستعمار؟ هذه ليست فلسطين التي اعرفها.
اختفى الغضب من وجه. احتضنني بحنية عجيبة. شعرت بدموعه تنسال على رقبتي من الخلف.
شعرت بالاسى. عنتر بن شداد، البطل المغوار، يبكي. شعرت به يتلاشى. جدران الزنزانة بدأت تنطبق على من جديد. احسست بألم حاد في ظهري من المضجع الخشبي. وبدأت اصوات العائدين الخافتة تلوح. والضوء البرتقالي اخذ بالانقشاع بتأني.
فحاولت التحرك. مددت يداي متوسلا الى الجدران. وجه عنترة الباكي فوق ظهر الابجر الذي أصبح لونه رماديا يتلاشى. حاولت ان انهض، ان اركض وراء السراب المختفي بلا فائدة. كأني جثة هامدة.
وفي محاولة يائسة صرخت خلف عنتر.
- أخبرني لماذا تبكي؟
سمعت صوته اتيا كالصدى من هاوية عميقة
-اقرأ التاريخ العربي من جديد تعرف لماذا.
شو بتحكي مع حالك؟ قلتلك اطلع معنا شم شوية هوا بخفف عنك.
دخل ايمن. وبدأ يوم فلسطيني اخر، في زنزانة