طبعا “لا ارض أخرى”… السينما الفلسطينية تنتصر!

د. لينا الطبال
د. لينا الطبال
قبل أسابيع، دخلت في دوامة جدل لا ينتهي، نقاش طويل وتفاصيل. كان صديقي يتحدث عن “التقدميين الإسرائيليين”، يرى فيهم فرصة يمكن أن تغير الرأي العام العالمي. اما أنا، فكنت ارى شيئا آخر، شيئا ينفي كل فرصة. كيف يمكن للاستعمار أن يحمل فرصة، وهو في جوهره نفي لكل امكان؟
أتدري يا صديقي؟ الاحتلال لا يصبح حمامة بيضاء لأنه غرس شجرة زيتون فوق أرض اغتصبها. مهما حاول التزين بقناع الإنسانية، ستبقى مخالبه تقطر دما، وسيظل ظله الأسود ثقيلا على صدورنا.
قلت له، أو ربما قلت لنفسي بصوت مرتفع: أي تعاون لا ينطلق من رفض مطلق للاحتلال، ولا يضع حق الفلسطينيين في العودة كأولوية ولا يدين توسع المستوطنات هو تواطؤ مموه… الحقيقة يا صديقي تشبه صاروخ قسامي صُنع في غزة، ولا تعترف بالحدود التي رسمها المحتل!
يا للمفارقة! عاد هذا الجدل مرة اخرى في حفل توزيع جوائز الأوسكار، وفجر فوز فيلم “لا أرض أخرى” بجائزة أفضل فيلم وثائقي موجة غضب داخل إسرائيل. ارتبك الاحتلال أمام اختراق السردية الفلسطينية وانتزاعها مساحة طالما احتكرتها رواية واحدة، هل يعتقدون حقا ان بإمكانهم الاستمرار في فرض روايتهم على العالم؟
كشف الفيلم عن تصدع الرواية الإسرائيلية، عصف بالطمأنينة المصطنعة، كسر التناغم الذي حاولت اسرائيل فرضه على الرأي العالمي. حقا، الهزيمة الكبرى التي يخشاها العدو هي في ميدان الرواية !
الفيلم، الذي ولد من تناقض عجيب، تعاون بين فلسطينيين وإسرائيليين، يحاول أن ينسج من التناقض ذاته مرآة تعكس مأساة شعب يناضل من اجل حقه في البقاء. هذا الفيلم، أنتجته مجموعة مكونة من أربعة ناشطين شباب: باسل عدرا، حمدان بلال، يوفال أبراهام، وراحيل تسور…علاقتهما المعقدة مسكونة بعدم المساواة الشديدة بينهما، باسل وحمدان يعيشان تحت وطأة احتلال عسكري قاسي، بينما يوفال ورحيل يتحركان بحرية على الضفة الأخرى من الأرض ذاتها، بلا قيود ولا خوف.
أياديهم اتحدت ووثقت أكبر عملية نقل قسري يتم تنفيذها على الإطلاق في الضفة الغربية المحتلة، هذه الجريمة الممتدة بلا نهاية في” مسافر يطا”، وهي مجموعة من القرى الفلسطينية في الخليل تقف على حافة الزمن، تتأرجح بين الوجود والعدم. يعاني سكانها من خطر التهجير الجماعي (منذ عقود) بسبب إقامة الاحتلال للمستوطنات ومناطق للتدريب العسكري. وقد اقرت المحكمة العليا الإسرائيلية لقوات الاحتلال “بتطهير” المنطقة من السكان. كل مشهد في الفيلم هو نافذة مفتوحة على فراغ يتسع وعلى جغرافيا مشوهة ومحو تدريجي للحياة. في “مسافر يطا”، لا شيء ثابت إلا احتمالية الزوال، والسماء هي سقف مؤقت لواقع تحاول عدسة الكاميرا أن تسجله قبل أن يمحوه الاحتلال: عمليات التهجير القسري، هدم المنازل، عنف المستوطنين على الاهالي، صراخهم امام الجرافات التي تزيل وجودهم …
إسرائيل تفتقر إلى الموارد الطبيعية، لا نفط، لا معادن، لكن لديها شيئا أكثر قيمة: تهمة “معاداة السامية” الجاهزة للتصدير!
كل من يجرؤ على انتقاد الاحتلال، كل من يكشف زيف الرواية الإسرائيلية، يحصل فورا على هذه التهمة. إنها السلعة الأكثر تداولا في السياسة الإسرائيلية، تستخدمها ضد الصحفي، والأكاديمي، وحتى ضد الإسرائيلي نفسه.
يوفال أبراهام، احد مخرجي الفيلم، لم يكن يعلم أن فضح نظام الفصل العنصري وأن الجائزة التي فاز بها ستتحول إلى بلاء ضد السامية. تهديدات المستوطنين كانت كفيلة بتحويله من مواطن صالح إلى شخص غير مرغوب فيه في هذا الكيان الديمقراطي جدا… الكيان الذي يقدس حرية التعبير… شرط أن تكون قصيدة مديح في جمال الاحتلال!
حسنا، لنضع الفكاهة جانبا للحظة… صفعة لم تكن في الحسبان، ترددت أصداؤها في مكاتب الحكومة الإسرائيلية! وزير الثقافة “ميكي زوهار”، خرج غاضبا، محبطا، وكأن السينما الفلسطينية اخترقت القبة الحديدية لإسرائيل. وصف الفيلم بأنه تشويه لصورة إسرائيل أمام العالم…
ما الذي كان زوهار يتوقعه؟ فيلم يصور الجيش الأكثر اخلاقية هو يقطف الورود؟ او مشاهد لمستوطن اشقر يتحدث عن الحب والسلام؟؟
الصدمة ليست في الفيلم بحد ذاته، الصورة انطلقت على شاشة الأوسكار، وحصدت تصفيق العالم، بينما بقيت إسرائيل وحدها تتلعثم امام مشهد لم يعد قابلا للحذف: الكاميرا لم تعد بيد اسرائيل!
-“اذا كنتم ستقصفوننا، فلنترك على الأقل أفلاما تشهد عليكم”! هكذا بدأ رشيد مشهراوي في توثيق المجازر في غزة
بعد 7 أكتوبر، ومنح الفلسطينيين سلاحا فتاكا: الكامير! من قلب الركام، أطلق مشروع From Ground Zero “من الصفر”، سلسلة أفلام وثقت اللحظة الفلسطينية كما هي، دون تحريف، ورفض تحول المجازر إلى أرقام عابرة. رشيد مشهراوي لا يصنع أفلامه بقدر ما يخوض حربه ضد النسيان… في مواجهة آلة الحرب الإسرائيلية التي تواصل محو غزة من الجغرافيا، اختار رشيد أن يعيدها إلى الذاكرة، مشهدا بعد مشهد، صورة بعد صورة… النسيان؟ ألم يكن النسيان هو الرهان الذي عقدت عليه إسرائيل آمالها لعقود؟
السينما الفلسطينية تصل إلى الأوسكار لأول مرة في التاريخ! بعد أن رُشح هاني أبو أسعد مرتين من تحقيق الإنجاز ذاته عبر فيلميه “الجنة الآن” و”عمر”! لكن ما يزيد من قلق إسرائيل ان موجة فنية فلسطينية بدأت تشق طريقها إلى المنصات الكبرى. فقد تم ترشيح فيلمين فلسطينيين آخرين هذا العام لجائزة الأوسكار، أحدهما “من الصفر” لـ رشيد مشهراوي والآخر “برتقالة من يافا” لـ محمد المغني، الذي يتناول النكبة المستمرة منذ 1948.
استحضروا هذا السيناريو في اذهانكم، “ميكي زوهار” يكتب تغريدة عن “المؤامرة الثقافية ضد إسرائيل”… ثم يحدق في شاشة التلفاز امامه، أنفاسه تتسارع، يفتح فمه، يغلقه، يفتحه مجددا ويصرخ: “هذا الفيلم تهديد وجودي! الإرهاب وصل إلى هوليوود!” بالطبع لا أحد يرد، فالجميع مشغول بالتصفيق للاوسكار ولا يأبه لنوبات غضب زوهار. ومهما صرخ، ومهما هدد، لقد تم عرض الفيلم وتقديم الجائزة، واُعلن انتصار الرواية الفلسطينية. لكن في إسرائيل، عندما يعجزون عن إسكات صوت الحق، يلجأون إلى هذا السلاح: القمع.
هذا تماما ما قام به زوهار، بعث برسالة إلى المؤسسات الثقافية يأمرهم بمنع عرض فيلم “لا أرض أخرى” وبإلقاء القبض على الكاميرات، وتوقيف العدسات، يريد أن تبقى السينما الإسرائيلية أسيرة لسردية الاستعمار، وان يظل المستوطن الأشقر هو بطل الشاشة الرئيسي. يريد أن يحولها إلى “وحدة عسكرية للإنتاج السينمائي”، تماما كما يحصل في الأنظمة الفاشية.
لكن الأسوأ بالنسبة لتل أبيب لم يأتِ بعد! فهل نتعاطف مع زوهار؟ بالطبع لا! لنتركه يستمتع بمشاهدة الفيلم مرة أخرى…
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس