تنافس الشركات الأميركية على إعادة إعمار غزة لهثا وراء الأرباح

 تنافس الشركات الأميركية على إعادة إعمار غزة لهثا وراء الأرباح

واشنطن – سعيد عريقات

في الوقت الذي لا تزال فيه غزة غارقة في دمار غير مسبوق خلّفته حرب الإبادة الإسرائيلية الممتدة لعامين، يتبلور في واشنطن مسار موازٍ أقل وضوحًا، تقوده شركات مقاولات أميركية ورجال أعمال على صلة وثيقة بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في سباق مبكر للسيطرة على ملف إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية. وبحسب تقديرات الأمم المتحدة، تصل كلفة إعادة إعمار القطاع إلى نحو 70 مليار دولار، ما يحوّل غزة، في نظر هذه الأطراف، إلى فرصة اقتصادية بقدر ما هي مأساة إنسانية.

وتكشف مصادر ووثائق اطّلعت عليها صحيفة الغارديان أن تدمير أو تضرر ما يقارب 75 في المئة من مباني القطاع فتح شهية شركات متخصصة في البناء والهدم والخدمات اللوجستية، ترى في مرحلة “ما بعد الحرب” سوقًا نادرًا لعقود طويلة الأمد، رغم غياب أي إطار سياسي أو إداري مستقر لإدارة غزة.

ورغم عدم وجود آلية رسمية حتى الآن لتوقيع عقود إعادة الإعمار، فإن ذلك لم يوقف التحرّكات غير الرسمية. فـ”مجلس السلام” الذي وافقت الأمم المتحدة على إنشائه لإدارة غزة، برئاسة ترمب، لم يبدأ عمله فعليًا، كما تبقى صلاحيات مركز التنسيق المدني–العسكري محدودة. هذا الفراغ أفسح المجال أمام مبادرات موازية خارج القنوات التقليدية.

وفي هذا السياق، شكّل البيت الأبيض فريق عمل خاصًا بغزة يضم جاريد كوشنر وستيف ويتكوف وآريه لايتستون، يعمل على بلورة تصورات لإدارة المساعدات وإعادة الإعمار. ووفق مصادر مطلعة، يقود النقاشات التقنية مسؤولان سابقان في شركة “دوج”، سبق أن ارتبطا بجهود إيلون ماسك لتقليص حجم الحكومة الأميركية. وقد جرى تداول عروض تقديمية تتضمن خططًا تشغيلية مفصلة تشمل التسعير، وتقديرات الأرباح، ومواقع التخزين المحتملة.

وبرزت في هذا الإطار شركة غوثهام Gothams LLC كمنافس رئيسي لتولي الملف اللوجستي. وتمتلك الشركة شبكة علاقات سياسية واسعة، وكانت قد حصلت سابقًا على عقد بقيمة 33 مليون دولار لإدارة مركز احتجاز مهاجرين مثير للجدل في جنوب فلوريدا، المعروف بـ”ألكاتراز التماسيح”. وتشير وثائق وثلاثة مصادر إلى أن الشركة كانت المرشح الأبرز للفوز بعقد يُعد الأكبر في تاريخها.

غير أن هذا المسار تعرّض لانتكاسة مفاجئة، بعدما أعلن مؤسس الشركة، مات ميشيلسن، انسحابه من المنافسة، مبررًا قراره بمخاوف أمنية واحتمالات تداعيات إعلامية سلبية. وقال ميشيلسن في مقابلة مع الغارديان إن الخطط “تغيّرت جذريًا وتوسعت على نحو غير متوقع”، مشيرًا إلى أن استفسارات الصحيفة أسهمت في إعادة تقييم الموقف.

في المقابل، اكتفى المتحدث باسم فريق عمل البيت الأبيض المعني بغزة بالتأكيد أن التخطيط لا يزال في مراحله الأولى، وأن “عدة أفكار قيد النقاش دون قرارات نهائية”، رافضًا الخوض في تفاصيل تتعلق بآليات الاختيار أو الجهات المرشحة.

وتفيد مصادر بأن مقاولين أميركيين زاروا المنطقة مؤخرًا للقاء مسؤولين نافذين وشركاء محتملين، في ظل تصاعد الاهتمام بمرحلة ما بعد الحرب. ويصف أحد المقاولين المخضرمين المشهد بقوله: “الجميع يسعى لحجز موقعه مبكرًا… يتم التعامل مع غزة كما لو كانت نسخة جديدة من العراق أو أفغانستان”.

وكانت الأمم المتحدة قد أيّدت في تشرين الثاني الماضي خطة ترمب لغزة، وسط رؤيتين متباينتين: الأولى تروّج لمشاريع استثمارية وعقارية، والثانية، التي يتبنّاها المجتمع الدولي، تركز على إعادة بناء القطاع كبيئة صالحة للحياة لنحو 2.5 مليون فلسطيني. وفي المقابل، تواصل إسرائيل سيطرتها على نحو نصف مساحة غزة، وتربط أي إعادة إعمار في المناطق التي تسيطر عليها “حماس” بنزع سلاحها.

وضمن هذا السياق، برز دور مستشارين شبّان في فريق غزة، أعدّوا وثائق تخطيط تقترح تعيين “مقاول رئيسي” لإدارة دخول ما يصل إلى 600 شاحنة يوميًا إلى القطاع، مقابل فرض رسوم مرتفعة على الشاحنات الإنسانية والتجارية. وتشير تقديرات إلى أن هذا النموذج قد يدرّ إيرادات سنوية تصل إلى 1.7 مليار دولار من رسوم النقل وحدها.

وتكتسب مسألة النقل أهمية حاسمة، إذ كانت غزة تعتمد قبل الحرب على دخول نحو 500 شاحنة يوميًا. غير أن إسرائيل فرضت منذ 7 تشرين الأول 2023 قيودًا صارمة على حركة الدخول، ما تسبب في نقص حاد في الغذاء والوقود ومواد البناء، رغم النص في اتفاق وقف إطلاق النار على أرقام أعلى.

ولطالما اضطلعت الأمم المتحدة بدور محوري في إيصال المساعدات إلى غالبية سكان غزة، إلا أن مستقبل هذا الدور بات موضع تساؤل، في ظل توجهات متزايدة نحو خصخصة العمل الإنساني وإسناده إلى شركات ربحية.

وتكشف هذه التحركات المبكرة أن معركة “اليوم التالي” في غزة تُدار بمنطق السوق قبل أن تُحسم سياسيًا أو إنسانيًا. فبدل أن تنطلق إعادة الإعمار من احتياجات السكان وحقهم في حياة كريمة، يجري التعامل مع القطاع كفرصة استثمارية عالية المخاطر والعوائد. هذا النهج يهدد بتحويل الإغاثة إلى أداة ربح، ويعيد إنتاج نموذج اقتصاد الحروب، حيث يصبح الدمار نفسه أصلًا قابلاً للاستثمار، لا مأساة تستوجب المساءلة والإنصاف.

Al Enteshar Newspaper

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *