“إسرائيل” والولايات المتحدة الأميركية: من يوظّف من؟

 “إسرائيل” والولايات المتحدة الأميركية: من يوظّف من؟

حسن نافعة

تشكل العلاقة التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل نمطاً فريداً لا مثيل له في تاريخ العلاقات الدولية، وهذا ما تؤكده شواهد عديدة منها:

1- حجم ما تحصل عليه “إسرائيل من مساعدات أميركية في مختلف المجالات. فمن المسلّم به عدم وجود دولة أخرى في العالم تماثل ما تحصل عليه “إسرائيل” من معونات أميركية.

2- أنواع وكميات الأسلحة الأميركية التي تتدفق سنوياً على “إسرائيل”، فمن المسلّم به أن “إسرائيل” تستطيع أن تحصل من الولايات المتحدة على نظُم تسليحية لا تستطيع حتى الدول الأعضاء في حلف الناتو أن تحصل عليها.

3- عدد مرات استخدام الفيتو الأميركي لمصلحة “إسرائيل”. فمن المسلّم به أن “إسرائيل” تُعد أكثر دول العالم قاطبة استفادة من الفيتو الأميركي في مجلس الأمن، على الرغم من كونها أكثر دول العالم انتهاكاً للقانون الدولي وارتكاباً لجرائم الحرب وللجرائم ضد الإنسانية، ما يجعلها في مأمن تام من الإدانة والعقاب. 

يصعب اختزال خصوصية العلاقات الأميركية الإسرائيلية في حجم ما تحصل عليه “إسرائيل” من دعم أميركي في مختلف المجالات.

فالولايات المتحدة كانت وما تزال جاهزة ومستعدة للتدخل المباشر لمصلحة “إسرائيل”، سواء لإنقاذها من هزيمة محتملة، مثلما فعلت في حرب 73 حين قررت إقامة جسر جوي لمدّها بكل ما تحتاج من أسلحة، بعد أن تبيّن أن كفة الحرب تميل لغير مصلحتها، أم لمساعدتها على مواجهة خطر محدق، مثلما فعلت في أعقاب “طوفان الأقصى”، حين سارعت إلى حشد قواتها وأساطيلها في المنطقة لردع القوى المعادية. ورغم كل ما تقدمه الولايات المتحدة لـ”إسرائيل”،لا يأخذ نمط العلاقة بين البلدين دائماً شكل علاقة السيد بالمسود، أو علاقة المتبوع بالتابع. فرغم صغرها المتناهي، من حيث الحجم وعدد السكان، على الأقل، تبدو “إسرائيل” في أحيان كثيرة وكأنها هي التي تقود وتوجّه السياسة الخارجية لأقوى دولة في العالم. 

في تفسير خصوصية هذا النمط الفريد من أنماط العلاقات الثنائية بين الدول، توجد مدرستان:

الأولى: ترى أن “إسرائيل” كيان مختلف، لأنه لم ينشأ ويتطور كدولة قومية، وإنما هي تجسيد حي لمشروع سياسي أُقيم لأداء وظيفة محددة في خدمة القوة المهيمنة على النظام الدولي، ألا وهي الحؤول دون قيام دولة كبرى في منطقة الشرق الأوسط، عربية كانت أم إسلامية، تحل محل إمبراطورية عثمانية كانت على وشك الانهيار عند اندلاع الحرب العالمية الأولى، ما يفسر إقدام بريطانيا، باعتبارها الدولة المهيمنة على النظام الدولي في ذلك الوقت، على اتخاذ الخطوات الأولية لتأسيس ورعاية المشروع الصهيوني خلال فترة ما بين الحربين.

ثم تولّت الولايات المتحدة، التي تحولت لاحقاً إلى دولة مهيمنة على النظام الدولي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مسؤولية تأسيس ورعاية الدولة الإسرائيلية، التي وُلدت من رحم المشروع الصهيوني عام 1948. ولا يمكن لـ”إسرائيل”، وفقا لأطروحات هذه المدرسة، التي يُعد الدكتور عبد الوهاب المسيري مؤلف موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” أحد أهم رموزها، أن تكون إلا دولة تابعة للدولة المهيمنة على النظام الدولي.

أما المدرسة الثانية: فترى أن “إسرائيل” تستمد قوتها ونفوذها على الساحة الدولية من قوة ونفوذ اللوبي الصهيوني المنتشر في مختلف أنحاء العالم، خاصة حين يكون متغلغلاً في أحشاء عملية صنع القرار في الدولة المهيمنة على النظام الدولي، ما يفسّر اهتمام المشروع الصهيوني بتنظيم وبناء هذا النفوذ في بريطانيا أولاً، وذلك خلال مرحلة التأسيس التي استمرت طوال فترة ما بين الحربين، كما يفسّر انتقال هذا الاهتمام إلى الولايات المتحدة حين أصبحت القائد الحقيقي للنظام الدولي، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما بدا واضحاً إبّان انعقاد مؤتمر بلتيمور عام 1942. ووفقاً لهذه المدرسة، تستطيع “إسرائيل” أن تمارس نفوذاً يفوق قدراتها الذاتية حين ينجح اللوبي الصهيوني في السيطرة على مراكز صنع القرار في الدولة المهيمنة على النظام الدولي.

ويُعتبر كل من جون ميرشايمر، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة شيكاغو، وستيف والت، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفرد، من أبرز روّاد هذه المدرسة. ففي كتابهما المعنوَن: اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية The Israel Lobby and US Foreign Policy، المنشور عام 2007، استطاع هذان الباحثان، الأكثر شهرة في مجال دراسة العلاقات الدولية، إثبات أن اللوبي الصهيوني المتغلغل في أهم مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة كان في معظم الأحيان قادراً على ترجيح كفة المصالح الإسرائيلية على حساب المصالح الأميركية.

غير أن الفحص المدقق للمسار التاريخي الذي سلكته العلاقات الأميركية الإسرائيلية، يظهر حقيقتين على جانب كبير من الأهمية:

الحقيقة الأولى: أن صانع القرار الأميركي كان بمقدوره، في ظروف معينة، ممارسة ضغط حاسم لحمل صانع القرار الإسرائيلي على التراجع الفوري عن قرار تم اتخاذه بالفعل، حتى لو تعلّق الأمر بقضايا استراتيجية بالغة الأهمية بالنسبة إلى “إسرائيل”. وأبرز الأمثلة على ذلك، ما قام به الرئيس الأميركي أيزنهاور، حين تمكّن من إجبار بن غوريون، رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، على الانسحاب من سيناء في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956.

فبينما قررت كل من بريطانيا وفرنسا الانسحاب من منطقة قناة السويس، فور صدور قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بوقف إطلاق النار في نوفمبر 1956، تلكّأت “إسرائيل” كثيراً في الانسحاب من سيناء، ولم تقم بتنفيذه إلا في نهاية آذار/ مارس 1957، وبعد إقدام أيزنهاور على توجيه خطاب شديد اللهجة إلى بن غوريون.

وكثيراً ما يُستخدم هذا المثال من جانب أنصار “النظرية الوظيفية” للتأكيد أن “إسرائيل” هي مجرد أداة في يد الدولة المهيمنة على النظام الدولي. غير أن وجهة النظر هذه، تغفل أن العامل الأكثر حسما في دفع الرئيس الأميركي للضغط على “إسرائيل” في هذه الحالة، يعود إلى تعاظم نفوذ التيار العروبي في تلك الفترة، واعتقاد صانع القرار الأميركي أن هذا التيار قادر على تهديد المصالح الأميركية في المستقبل، ومن ثم، بات يشكل قوة يتعين أخذ مصالحها في الاعتبار، وأن الأنسب في هذه المرحلة هو أن تعمل الولايات المتحدة على احتوائه.

الحقيقة الثانية: أن الإدارات التي تعاقبت على حكم الولايات المتحدة الأميركية منذ حرب 67، انحازت جميعها لمصلحة “إسرائيل”، ما يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن تنامي قوة وتأثير “اللوبي الصهيوني” على عملية صنع القرار الأميركي، هو ما يفسر هذا الانحياز. غير أن وجهة النظر هذه تغفل حقيقة أخرى، هي تعاظم إدراك صانع القرار الأميركي لأهمية الدور الذي تقوم به “إسرائيل” في خدمة المصالح والاستراتيجيات الأميركية، في منطقة الشرق الأوسط بعد حرب 1967.

فالنتائج المتحققة من هذه الحرب لم تسمح لـ”إسرائيل” وحدها بتحقيق مصالحها، عبر تمكينها من احتلال أراضٍ فلسطينية وعربية شاسعة، لكنها أضعفت في الوقت نفسه من نفوذ الاتحاد السوفياتي في المنطقة، وهو هدف سعت الولايات المتحدة إلى تحقيقه.

لذا يمكن القول إن العامل الأكثر حسماً هنا، كان انكشاف الحجم الحقيقي للتيار العروبي وتراجع قدرته على التأثير في التفاعلات الإقليمية والدولية، ما ترك فراغاً تقدّمَ النفوذ الصهيوني لملئه.

نخلص مما تقدم، إلى أن موازين القوى المتصارعة على الساحة الشرق أوسطية، وبالتالي مدى قدرة هذه القوى على التأثير سلباً أو إيجاباً على المصالح الأميركية في المنطقة، هي التي تتحكم في النهاية في تحديد موقف الولايات المتحدة من هذه الصراعات.

صحيح أن للأخيرة مصالح ضخمة ومتشابكة في العالم العربي، لكن صانع القرار الأميركي، يعتقد أن هذه المصالح مضمونة ومتحققة في جميع الأحوال، ومن ثم، لا تتطلب تغييراً في مواقفه وانحيازاته، بل ويعتقد أنها يمكن أن تتحقق بشكل أفضل عبر تغذية شعور النظم العربية بالخوف من “إسرائيل”، ما يدفعها إلى تقديم المزيد من التنازلات للولايات المتحدة!.

غير أن هذا الوضع بدأ يتغير بعد انسحاب النظم العربية من ساحة المواجهة العسكرية مع “إسرائيل”، ودخول محور المقاومة بقيادة إيران طرفاً مباشراً في هذه المواجهة. خصوصاً بعد “طوفان الأقصى”.

فقد أثبتت الأحداث التي تعاقبت على المنطقة منذ ذلك اليوم، أن “إسرائيل” باتت تشكل عبئاً مادياً وأخلاقياً كبيراً على الولايات المتحدة، وهو ما قد يفسّر قرار ترامب الدخول مع إيران في عملية تفاوضية بشروط الأخيرة، أي عبر مفاوضات غير مباشرة، تقتصر على بحث بند البرنامج النووي في مقابل رفع العقوبات، ولا تتطرق إلى بحث أي بنود أخرى، خاصة ما يتعلق منها ببرنامج إيران الصاروخي أو بنفوذها الإقليمي.

لا يستطيع أحد أن يتكهن بما قد تسفر عنه المفاوضات الجارية حالياً من نتائج، لكنها تشكل بالقطع اختباراً صعباً بالنسبة إلى رجل وصل إلى البيت الأبيض حاملاً شعار “أميركا أولاً”.

فإذا كان ترامب يريد حقاً ضمان عدم تحول البرنامج النووي الإيراني إلى برنامج للتسلح النووي، مقابل رفع العقوبات عن إيران وتمكينها من مواصلة برنامجها النووي السلمي، فمن الواضح أن هذا أمر ممكن ويحقق مصلحة أميركية وإيرانية مشتركة، لكنه لا يحقق بالضرورة مصلحة نتنياهو الذي يسعى إلى حرمان إيران، لا من برنامجها النووي فحسب، حتى ولو كان سلمياً، وإنما من برنامجها الصاروخي ومن نفوذها الإقليمي الإقليمي في الوقت نفسه. لذا يمكن القول إن الأسابيع المقبلة ستثبت إذا ما كان ترامب يسعى إلى تحقيق المصالح الأميركية أم المصالح الإسرائيلية أولاً، وحينئذ فقط، ربما نعثر على إجابة واضحة لسؤال مَن يوظّف مَن؟ 

Al Enteshar Newspaper

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *