ألم الأرض: سولستالجيا فلسطينية

 ألم الأرض: سولستالجيا فلسطينية

د.سماح جبر

د.سماح جبر
نحن أبناء الأرض، منها خُلقنا وإليها نعود. يقول القرآن الكريم: “خلق الإنسان من صلصال كالفخار”، وفي التوراة نقرأ: “من التراب أتيت وإلى التراب تعود”. حتى العلم يثبت ما تبوح به النصوص المقدسة بشاعرية عميقة: عناصر أجسادنا – الكربون والنيتروجين والأكسجين – هي ذاتها التي تسكن التربة تحت أقدامنا.
ولكن ماذا يحدث حين تُنتزع الأرض من أصحابها؟ حين يُسحق تراب الأجداد تحت جنازير الجرافات؟ حين يُقطع الجسد عن جذوره، ويُحرم الإنسان من دفء تاريخه المتجسد في حبات الرمل؟ ماذا يحدث حين تبكي الأرض ويتردد صدى أنينها في أرواحنا؟
الفلسطينيون يعرفون الإجابة جيدًا. نحن لا نعاني فقط من الحرب والاحتلال والحصار، بل نعاني أيضًا من ألم الأرض—من حزن التراب المسلوب، من وجع المكان المدمّر، من إحساس غائر بالفقد يُعرف في علم النفس باسم السولستالجيا. هذه ليست حنينًا إلى وطن بعيد، بل هي كرب يعيشه المرء وهو يرى وطنه يُسلب أمام عينيه، وهو ما يزال واقفًا عليه.
الأرض ليست محايدة
في فلسطين، الأرض ليست مجرد جغرافيا؛ بل هي هوية وحكاية وإرث. شجرة الزيتون ليست مجرد نبات؛ إنها الجدّ الحكيم الذي يشهد على التاريخ، والصخرة ليست جمادًا؛ إنها مِحراب صلاة، وشاهد قبر، وحارس سرّ. التراب ليس مجرد ذرات غبار، بل هو رفات الأجداد، وخطوات الطفولة، وسجادة سجود المؤمنين.
وحين تُسرق الأرض، وتُجتث الأشجار، وتُحاصر القرى، ويُطوّق المكان بالجدران والحواجز، فإن الجريمة ليست بيئية فقط، بل نفسية ووجودية. إنها حرب على الذاكرة، على الانتماء، على الطين الذي شُكّلت منه أرواحنا.
لم تكن النكبة مجرد تهجير، بل كانت اقتلاعًا للبشر من تربة وجودهم، وكان كل ما تلاها امتدادًا لهذا الاقتلاع: مصادرة الأراضي، قطع الطرق، تدنيس المقابر، هدم البيوت. لم يكن التصحّر الذي أصاب فلسطين مجرد كارثة بيئية، بل كان أيضًا أزمة نفسية، وجرحًا في جوهر الوجود الفلسطيني.
رجال الطين وأرواح متشققة
في الشعر العربي القديم، كان العاشق يخاطب الأطلال، ويذرف الدمع على الديار، ولكن في فلسطين، الأطلال ليست مجرد بقايا نازفة من زمن مضى، بل هي أيضاً عنوان للمقاومة.
كما أن الأواني الفخارية تصبح أصلب بعد النار، كذلك الفلسطيني، كلما احترق في أتون المحن، ازداد صلابة. نحن شعب من الطين، تشقق بفعل الزمن لكنه لم ينكسر.
لكن حين تتشقق الأرض، يتوارث الإنسان حزنها. البعض يحمل هذا الحزن في رئتيه، يتنفس غبار الهدم والدمار، والبعض يحمله في ظهره المنحني بثقل التهجير، وآخرون يحملونه في عيونهم المعلقة بأفق مسلوب. أما البعض، فقد تحول حزنهم إلى صمت حجري، تجمدت كلماتهم بين الأضلع.
الأرض تقاوم
لكن الأرض، مثل شعبها، لا تستسلم.
رغم الاحتلال والجدران الإسمنتية وزرع الأشجار الغريبة لطمس الهوية، ما زال الزعتر البري ينمو في الشقوق، وما زالت الصبّارات التي زرعها الفلاحون الفلسطينيون منذ عقود صامدة، حتى وإن مُحيت القرى التي أحاطتها. وما زال القمح ينبت في الحقول التي يريدونها قاحلة.
هذه هي حكمة الأرض: لا شيء يختفي تمامًا. حتى في المنافي، تبقى فلسطين مغروسة في جلود الفلاحين، في مذاق الزيتون، في رائحة الزعتر، في ذكريات الأجداد التي تُورث للأحفاد.
وهكذا، رغم ما نعانيه من ألم الأرض، نجد فيها أيضًا عزاءنا وشفاءنا. نغرس أقدامنا في التراب، نحيط أيدينا بجذوع الزيتون، نستعيد الأرض بالذاكرة، بالكلمة، بالقصيدة، بالطعام، بالمقاومة. نرفض أن ننفصل عن ترابنا، حتى وإن وضعوا بيننا وبينه الجدران.
الأرض قد تتألم، لكنها لا تموت. وكذلك نحن. قد نُقتلع، لكن جذورنا تبقى ضاربة في الأعماق، تنتظر المطر الأول لتُزهر من جديد. قد يُحاولون محونا، لكننا، كالغبار المتطاير من بقايا البيوت المهدمة، نتغلغل في كل شق وكل ذاكرة، نستعصي على الفناء.
فلسطين هي ذاكرة الطين التي تحيا فينا، وحنين الأرض إلى أصحابها، ووعد الحقول بأن السنابل ستعود لتنحني تحت أقدام العائدين

Al Enteshar Newspaper

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *