من الزنزانة إلى البيت وإلى الزنزانة مجدداً، فقرة من مذكراتي

 من الزنزانة إلى البيت وإلى الزنزانة مجدداً، فقرة من مذكراتي

د. عادل سماره

11 نيسان 1965

بعد خروجي من التحقيق في زنازين العبدلي بيوم  ذهبت مشياً في الليل إلى قرية الطيرة المجاورة لقريتنا كي أوصل منشورات لحركة القوميين العرب كانت قد تأخرت بسبب الاعتقال.

عدت إلى البيت، ووضعت كاسا من الشاي على صفحة كتاب “الجغرافيا الاقتصادية للسنة الثانية في كلية العلوم السياسية والإدارية/الجامعة اللبنانية (ص 8). حيث بقيت بقعة دائرية تحت الكأس. وفي منتصف الليل جرى طرق الباب فإذا بشخص من القرية اسمه عادل ومعه علي جبر موظف مباحث النظام الأردني وهو اصلا من قرية لفتا المحتلة 1948.

واضح أنهم ذهبوا لبيت ذلك الرجل بسبب اسمه لذا أتى معهم لبيتي. حينها عنَّفني والدي “يا …..مش قلت لك روح على بيروت”.

وضعوني في سيارة جيب عسكرية لاند روفر شاصي (غرفة القيادة مفصولة عن بقية السيارة لكن بينهما شباك زجاجي)  أنا وعلي جبر، وللمفارقة كان السائق كاظم من قرية برفيليا المحتلة 1948 ومعه الشاويش علي العتيق من قرية صفَّا التي أُحتلت  لاحقاً 1967.

لماذا المفارقة؟ لأن كلا الرجلين كنت قد نظمتهما في الجهاز العسكري للحركة. كنت قد تعرفت علي العتيق عام 1961 حيث ذهبت لأتدرب مع طلاب التوجيهي حيث كان يتم تدريب للتوجيهي والثاني الثانوي في الصيف في تلك الفترة. فقال لي أنت لست نفس العمر! قلت صحيح لكنني أحب التدريب ، فوافق وبعدها بدأت صداقة بيننا.

في الطريق غفوت، فنهزني علي جبر: يا زلمه بتبرد بنفخك الهوى، الدنيا موت. طبعا كنت متعب من مشواري إلى قرية الطيرة.

كانا طوال الطريق يدخنان بلا توقف من القرية إلى عمان حيث نفس زنازين العبدلي.

حين وصلنا الزنازين، نزل علي جبر ليخبر المسؤول أنهم أحضروني، فانتهزت الفرصة وقلت لهما: لا تقلقوا، المهم خبروا أهلي أني بخير.

جاء جنديان وكلبشا يداي  وعلى طول إلى غرفة التحقيق حيث نفس طارق علاء الدين ومباشرة إنهال على وجهي باللكمات دون اي سؤال:

“يا ابن الكلب تتحمل اشد العقوبات”؟

كانت هذه الجملة التي ختم بها إفادتي قبل الإفراج عني ببضعة ايام من الاعتقال بعد بيت صفافا حيث أنكرت أنني عضو في الحركة وبأنني اعمل فرديا مع وديع حداد في بيروت.

طبعا بقيت على الإنكار.

وبعد حفلة شديدة، أحضروا لي رفيقاً وكان  في وضع سيىء:

قال: نعم هذا عادل سماره أعرفه وهو…. ثم قال يا عادل القيادة تضحك علينا…الخ

قلت: انت كذاب أنا لا اعرفك.

طبعاً تواصل التحقيق وبقيت على موقفي. لاحقا عرفت أن المخابرات قامت بضربة قاصمة للقوميين العرب والبعثيين وخلالها ورد إسمي.

للمفارقة كنت أصغر المعتقلين، ومر الزمان وفي عام 1979 كنت أكبر المعتقلين سنا في سجن رام الله تحت الاحتلال! بعد أن خرج ابو حسن من قرية حزما . اذكر  أعطيته حبة تفاح: أقرش يا ابو حسن. قال شو اقرش الله يقرشني ، اي هو في سنان هههه.

خلال وجودي في الزنازين في العبدلي  شعرت بأن شيئا يحك جلدي فأمسكت به ربما لأربع ساعات حتى جاء دوري إلى المرحاض  فتحت إصبعيْ الإثنين فإذا بها قملة شقراء. رفعت القميص الكتاني وكنت اشتريته من مصر في اول كانون الثاني 1965 بعد مشاركتي في مؤتمر إتحاد طلبة فلسطين فإذا به مليء ما بين خيوطه بالقمل.

كان معي في الزنزانة فهد الفانك ورفيق من قرية الحُصُن في الأردن من البعث وابو سرحان وسمير قمحاوي وزكي فريج من القوميين، فهمست في اذن أبو سرحان:

في عليك قمل!

ضحك وقال هي هاي من زمااان.

كانت الزنزانة ضيقة ولذا كنا ننام سيف أو كتف كي تتسع. وكانوا يحضرون الأكل فنضعه بين الأحذية.

قلت: هذه مزهريات.

قال الرفيق من الحصن: لكن هذا قُوَّار عن البوط الذي كنت ألبسه.

خلال تلك الأيام كانوا يحققون معنا فقط في الليل، وفي النهار كان الجنود يطرقون الباب كل نصف ساعة للعدد، ويسألون كل واحدعن اسمه، ويرغموننا على تنبيه النائم والهدف ان لا ننام.

كانوا بين فترة وأخرى يُجرون تنقلات في الزنازين. وطبعا يعصبون عيوننا . ذات مرة أتوا لتعصيب عيون الرفيق محمد عبد الله ربيع مسؤول التنظيم في الضفة الغربية، وكان يلبس نظارات سميكة كنا نسميها “طقاع كباية” وحين نزعوا النظارات قالك ما في داعي للعصبة هههه.

كان التحقيق في الليل،  وربما ذكرت أنه خلال أخذنا في الليل للتحقيق كانت المخابرات تأخذ زكي إلى بيته، ولذا اكتشفه الرفاق واغتالوه.

لذا خلال يومين من الاغتيال تغيرت معاملة طارق علاء الدين وهذا فاجئني لكن عرفت لاحقاً أن المخابرات اعتقدت أن هناك هدف اغتيالات ضدهم! طبعا هذا عرفته بعد أخذي إلى سجن المحطة.

بعد التحقيق أُخذت إلى سجن المحطة وهناك عرفت أن هناك ضربة للحزبين.

كان عدد المعتقلين من الحزبين قرابة 170 شخصا وضعونا في سجن المحطة في قسم خاص بالسياسيين.

كان بيننا وبين قسم الجواسيس  شباك تقطعه قضبان حديد. وكان الجواسيس يعملون “عوامه” ويبيعوننا. حيث كان اهلنا يحضرون لنا فلوسا. وكنا نعطي الشاويش ليشتري لنا من السوق وكنا نطبخ في كل غرفة حيث وفروا لنا وابور كاز كبير للطبخ وتسخين الماء للحمام.

من المفارقات أنني منذ دخولي غرفة السجن أتى رفيق وقال لي:

إسمع إذا أحد سألك عن من ركزوا معك في التحقيق قول على عزمي يعقوب. إعتقدت أنا أن الأمر تنظيمي.

بعدأن استرحت وضيفوني بعض الفواكه جاء شخص نحيف جدا جدا  

وقال: عن مين سألوك؟

قلت: كثير عن عزمي يعقوب.

فأخذ الرجل يولول والله مظلوم.

وإذا الحكاية أنه معتقل بشبهة أنه الرفيق المرحوم عزمي الخواجا الذي كان حينها في مصر يقدم امتحانات للجامعة في كلية التجارة.

كان عزمي يعقوب يحمل مرآة لها وجه عادي ووجه تكبير. كان يضعها وينظر في وجه التكبير ويقول هيك كنت، ثم ينقلها على الوجه العادي ويقول هيك صرت!!

قلت للرفاق قصة القمل فأحضروا لي سخان  وضعت فيه الملابس ووضعناه تحت الوابور حتى وصل الماء مرحلة الغليان وطفى القمل مسلوقاٌ على سطح ماء السخان وبهذا تمكنت من لبس تلك الكنزة القطنية المصرية.

كان المعتقلون يصطفون في الصباح وينشدون أناشيدا قومية ثم طابور رياضة ركض في الساحة، ثم تقوم غرفة بتحضير الأكل لكل الغرب ويقوم في كل غرفة رفيق بتسخين ماء للحلاقة في الغرفة.

ذات ليلة، كان الرفيق ابو علي مصطفى في غرفة أخرى وإذا به في الليل يصرخ ويناديني أن اصرخ على الخفير لإحضار طبيب. كانت قد اشتدت عليه الحصوة في الكلى، لكنهم تركوه يصرخ حتى الصباح.

لم يكن التحقيق قد بدأ مع الجميع، فقررنا الإضراب عن الطعام كي يتم التحقيق.

كانت إدارة السجن تُحضر لنا “جاطات” كبيرة بعضها مليء أرز مفلفل والآخر قطع اللحم الناضجة ويضعوها في وسط الساحة ونحن طبعا نمشي.

قال لي الرفيق أحمد…نسيت بقية اسمه هو من العباسية وكان يعمل في قسم التسجيل في الجامعة الأردنية:

قال: إسمع، لما نصل بجانب جاط الأرز إدفعني لأسقط عليه والتهم لقمة هههه

بعد إضراب  ربما خمسة ايام، بدأ التحقيق معنا جميعا، كان طارق علاء الدين مسؤول التحقيق مع القوميين  العرب وفالح الرفاعي  مسؤول التحقيق مع البعثيين وكان رجائي الدجاني هنا وهناك. لم اشهد في حياتي اسوأ من لسان هذا الرجل”على الطالعة والطايحه”.

كان مدير المخابرات حينها محمد رسول الكيلاني ، وهو بالمناسبة الذي اسس جهاز المخابرات الكويتي! هذا تعاون أنظمة القطرية. كانوا يسمونه “ابو رسول” وكان كلما نزل شخص من التحقيق في الزنازين إلى سجن المحطة يقول له: قول لرسول الغرام جاييه الدور. حيث لقبني رسول الغرام  لأنني كنت أنقل الرسائل من قيادة الإقليم في الأردن إلى قيادة الحركة في بيروت.

زياد الحسيني، أحدالرفاق في الحركة، سأله طارق علاء الدين:

قومي عربي يا زياد؟

قال: لا

قال: طيب لو ما كنا في نفس الخلية، بفهم إنكارك.

حيث كان طارق علاء الدين اثناء الدراسة عضو في الحركة هو زياد.

عصر 25 ايار 1965، طلبوا إسمي في السماعة “حضِّر حالك”.

طبعاً، المفهوم أنه للتحقيق. كان الرفاق حين يُطلب أحدهم للتحقيق  يحملونه ويلفوا به الساحة مع أناشيد قومية.

أعطوني كيس فواكه واستلمني الجنود.

وضعني الضابط بجانبه وهو يقود السياره وبدون كلبشات. قلت في نفسي هذه معاملة جيدة كي اُصدم بالتعذيب لاحقاً.

قال الضابط: أنت عارف وين رايح؟

قلت: على التحقيق

قال: لا على البيت

قلت: هل مات أخي محمود  (كان يشتكي من قرحة في المعدة)

قال : لا،  ابوك. كان عمر ابي 57 سنة وبصحة جيدة

 واصلت السيارة “لاند روفر” إلى كاراج العبدلي. وقبل أن أنزل قلت له ما في معي ولا فلس لأجرة الطريق. أعطاني 5 دنانير. قلت له لما ارجع بجيب لك إياهم. قال: يا شاب روح أبوك ميت وبدك ترجعلي مصاري! كما اذكر اسم الضابط جميل إزمقنه.

خرجت بكفالة (5000) دينار أردني، وكان والدي كما قلت سابقاً قد أصيب بالذبحة الصدرية وهو يحاول الإفراج عني.

طبعاً بعض الأقارب كانوا يقولوا: “شايفين موَّت ابوه” !

ملاحظة: ليس قصدي نشر كل مذكراتي هنا، ولكن تطابق  أو إستدعاء  تاريخ بعض الأحداث وتكرارها هو الذي يدفعني للنشر.

_________

Editor Editor

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *