حكاية مزارعي غزة.. حين تنبت الحياة بالزرع من بين الركام
في أقصى خطوط النار، قرب ما تبقى من “الخط الأصفر” شرق غزة، يقف المزارع أحمد الفجم فوق قطعة أرض لا تتجاوز مائة متر، يستعيد بها ما تبقى من ذاكرة حياة طمستها حرب الإبادة التي دمرت آلاف الدونمات الزراعية، ودفنت معها مصادر رزق آلاف العائلات. يجرّ بأنامله ما توفر من خراطيم بلاستيكية وقطع “زينكو” مستخرجة من بقايا منزله المهدّم، ليقيم بيتًا بلاستيكيًا بسيطًا يكفي ليعيد للأرض بعض نبضها.
يقول أحمد: «توجهت لأرضي هذه القطعة الوحيدة قرب الخط الأصفر وعدت لأزرع وأقلع… بما توفر لدينا من نايلون وزينكو، صنعنا بيتًا بلاستيكيًا يساعدنا لنأكل من خير أرضنا نحن وجيراننا».
كان الرجل يملك قبل الحرب ثلاث دونمات مزروعة بالزيتون والبلح، يورّد إنتاجها لرفح وغزة، ويعتمد عليها بالكامل في إعالة أسرته. لكن كل ذلك اختفى تحت القصف.
اليوم، يعيش وعائلته فوق أرضهم نفسها بعد أن تحول منزلهم إلى حطام، مؤمنًا أن البقاء قرب الأرض هو طريق العودة إلى الحياة.
رغم الخسارة، لا تزال يداه تحفر، ويزرع أحمد ما تيسّر من بندورة وفلفل وجرجير وسلق، يوزعها على أهل البيت ومن حوله، مؤكدًا: «بدون زراعة بنموت… اليوم المعاناة شديدة، لا يوجد أسمدة، وقنينة الكيماوي التي كانت بمائة شيكل صارت بألف ولا تتوافر».
كما يشكو من انعدام المياه والأدوات، فكل ما لديهم خراطيم مهترئة ونايلون مؤقت لا يحمي من برد الشتاء ولا حرّ الشمس.
خلف مشهد أحمد، تمتد معاناة غزة الزراعية التي أفرغتها الحرب من مقوماتها.
فقد أشارت تقارير أممية حديثة إلى أن أكثر من 60% من الأراضي الزراعية في القطاع تضررت أو دُمّرت، وأن ما يفوق 70% من الإنتاج الزراعي فُقد نتيجة القصف، فيما يواجه نحو 500 ألف شخص انعدام أمن غذائي حاد بعد تدمير الحقول والآبار وشبكات الري.
هذه الأرقام ليست أرقامًا فقط، بل هي وجوه كوجه أحمد، يحاول أصحابها إنقاذ ما يمكن إنقاذه من لقمة العيش.
على الجانب الآخر من الخط ذاته، يقف ابن عمّه أسامة الفجم، الذي كان يملك ستة دونمات قبل الخط الأصفر وأحد عشر دونه بعده، قبل أن تبتلعها الحرب هي الأخرى. ورغم استمرار إطلاق النار وعدم استقرار الوضع، قرر العودة قبل شهر ونصف ليعيد بناء دفيئاته الزراعية بوسائل بدائية، قائلاً: «نزرع سبانخ وسلق وجرجير وفجل وبقدونس… وما يفيض نبيعه لنعيد دورة الزراعة ونؤمن طعامنا».
يواجه أسامة صعوبات مركّبة؛ فالأرض مثقلة بركام القصف وآثار البارود، والأسمدة شحيحة والأدوية الزراعية شبه معدومة.
يزرع اليوم داخل معلبات الفول والفاصوليا، لينقل شتلاته يدويًا باستخدام “الطواري” و”الكريك”، في ظل غياب المعدات الحديثة. ومع كل ذلك، تظل معركة المياه تحدّيًا لا يقل خطورة: «الغاطس امتلأ ولكن لا يوجد ماتور لسحب المياه… نحن مثل السمك، إذا تركنا الأرض نموت، هي حياتنا».
تُجمع حكايات المزارعين في غزة على صورة واحدة: أرض تحاول التنفس تحت الركام، ومزارعون يصرّون على البقاء رغم انقطاع سلاسل الإمداد الزراعي وارتفاع أسعار الأسمدة عشرة أضعاف، ونقص الوقود الذي شلّ قدرة المضخات وجرّارات الحراثة، وإغلاق الطرق الذي شلّ حركتهم حتى إن أرادوا بيع ما تبقى من محاصيلهم.
ومع ذلك، يزرع أحمد وأسامة في بقع صغيرة لا تكاد تُرى على خارطة الدمار، لكنّها تحمل رسالة أكبر من مساحتها: أن الحياة يمكن أن تعود، ولو بحبة سلق وجرجير تنبت في علبة معدنية فوق أرض أُريد لها أن تموت.
في غزة اليوم، لا تقتصر الزراعة على كفاح من أجل الغذاء، بل هي فعل مقاومة للبقاء. وحكاية الفجم ليست إلا واحدة من آلاف القصص التي تنمو في صمت، لتقول للعالم إن جذور الأرض أعمق من الحرب، وإن يد المزارع، حين تعود للتراب، قادرة على أن تكتب فصلاً جديدًا حتى ولو كان على رماد.
