نشرة “كنعان”، 11 يوليو 2023

كنعان النشرة الإلكترونية

السنة الثالثة والعشرون – العدد 6586

11 تمّوز (يوليو) 2023

في هذا العدد:

عبرة صمود جنين: وحدة جبهات الثورة المضادة في الحرب والنهب والشذوذ (الحلقة 1)، د. عادل سماره

  • فماذا عن وحدة ساحات المحور!

هل خرجنا من العباءة العثمانية، موفق محادين

أشباح بيروت”: غبارٌ على حذاء صانع التاريخ، سعيد محمد

✺ ✺ ✺

عبرة صمود جنين:

وحدة جبهات الثورة المضادة في الحرب والنهب والشذوذ

فماذا عن وحدة ساحات المحور!

الحلقة 1

د. عادل سماره

كلما اشتد الصراع ساد في الكيان من الشخص العادي إلى المثقف فالسياسي والعسكري السؤال الكبير إياه: “هل كان هذا المشروع مجدياً وهل هو قابل للاستمرار!”. ويكون الجواب من التاريخ، وليس من مؤرخين بل من تجربة استيطان فرنجة الإقطاع، ومن اليوم عبر تآكل دور الكيان من العدوان للقتال خارج الأرض المحتلة إلى القتال الهجومي الإرهابي داخل الأرض المحتلة نفسها وهي ثنائية الانتشار فالانكماش الذي يؤول إلى زوال.

ومع كل لحظة صراع يزيد الكيان من عسفه ضد شعبنا لأنه يرى فيه قاتله، ونحن نرى فيه انتحاريه. فما جرى في مخيم جنين وقبله في غزة والجنوب يفقىء عين العالم في كشف من هو المخرِّب! ولا نقصد هنا تقييم حجم الخراب بل ايلولة المخرب إلى الهزيمة وهذا سؤال فيتنام وكوريا وليس العراق وأفغانستان لأن ما حل محل العدوان ليس رِدّةً عن ما كان قبل العدوان وغرق في طائفية دين سياسي قروسطية بل وحتى لم يقطع نظام البلدين الحالي الحبل السُّري المتقيِىء مع الإمبريالية.

 فاية قراءة لواقع الوطن الكبير تؤكد استحالة بقاء هذا الكيان وتؤكد لفظ العروبة له وليس حتى هضمه واستيعابه. هل هو غير قابل للهضم؟ ليس هذا السؤال، لكن السؤال من شقين:

·       استمرار النضال ضده والذي يشترط للتحرير إستعادة الشارع العربي لأن الصراع عروبي ضد الصهيونية. ولكن أعادني فك عروبة القضية وخاصة خلال صمود واشتباك جنين المخيم/البلد إلى ما كتبته في كنعان عام 1991:

“أخشى ان يقود خطاب نقل الصراع من عربي صهيوني إلى فلسطيني صهيوني إلى آل الحسيني صهيوني”.

·       وتراجُع ولو تدريجيا لمن خلق الكيان ويحميه مما يدفعه في وقته الأخير إلى اختيار الرحيل ويؤكد أن هذا التجميع الاسجلابي وإن وصل هنا متحمساً ومتكبراً يحتفظ داخل عقله وقلبه غرفة تقول له” من المنفى أتيت وإليه تعود، المنفوية تاريخك ومستقبلك “. ولمن يُرد الاستزاده هناك الكثير من كتابات الصهاينة عن المصير المنفوي على مساحة الكوكب. وهذا يضرب أول ما يضرب مدارس التطبيع مُسوِّقي الحلول من دولة واحدة وهي تعني مع المستوطنين إلى ثنائية القومية إلى دولة ديمقراطية إلى دولتين إلى دولة لكل مستوطنيها إلى دولة دينية ثلاثية أي “الإبراهيمية بعمامة وكوفية” بدل رأس ترامب مُصفَّف الشعر الأحمر جيداً.

نزع القضية من عمقها العربي

عُد إلى الأيام والسنين التي تلت هزيمة 1967، واٌقرأ الفارق بين جاهزية الفلسطينيين الفورية للنضال وبين غياب الأنظمة وتغييب الجيوش. لا اذكر انني عرضت على اي شخص هو/هي المشاركة في الكفاح ا.ل.م.س.ل.ح وتردد، بل كنا نرفض البعض ونحيله إلى مناضلي العمل السياسي.

لذا، فالحذر ضروري ممن يهرفون بأن النضال الفلسطيني الفعلي بدأ هذه الفترة أي باستبدال الكوفية بالعمامة! ولا داعٍ للعودة لنضال شعبنا منذ 1917.

بعد هزيمة 1967 كانت وحدها مصر الناصرية هي التي أعادت الاعتبار للجيوش العربية في حرب الاستنزاف والتي لو تقاطعت معها مختلف الجبهات أو لو حصلت “وحدة الساحات” لتغيرت الصورة من حينه.

 ولا داع للتذكير بعملية مطار اللد للشعبية 11-12-1967 أو خطف الطائرات أو ميونيخ  لحركة فتح أو الطائرة الشراعية للقيادة العامة  أو معارك وادي القلط…الخ. لا بد من معترضة هنا أن الشعبية فور العمل بعد هزيمة 1967  حاذرت إعطاء العدو فرصة الفتك بالمواطنين، لذا اختارت عمليات إما داخل المحتل 1967 أو في الأغوار على الحدود مما ساهم في إعاقة خروج الناس هجرة.

رغم الهزيمة كانت التضحيات والجاهزية ولكن هذه الجاهزية تعرضت لخطرين أديا إلى تراجعها:

·       التضخيم: حيث تشاركت قيادات الفصائل مع إعلام الأنظمة في تضخيم الأداء النضالي الفلسطيني.

·       والتمويل: حيث جرى تدفق التمويل على م.ت.ف مما قاد إلى البقرطة وتشكيل راسمالية بيروقراطية على راسه اجهزتها لتصبح سلطة بعد اتفاقات أوسلو.

ولكن، ما معنى هذا؟ بل ما المقصود به؟

كان ولا يزال المقصود اجتثاث عروبة القضية وحصر الصراع بين الفلسطيني والنظام الراسمالي الإمبريالي العالمي ومقدمته الكيان. لذا، خرجت أنظمة وأحزاب من الصراع وبقيت جبهة الشارع العربي لكنها ظلت حبيسة بين قمع الأنظمة ولاحقاً أخذها إلى الدين السياسي ومن هنا وجوب استرداد الشارع العربي من أجل المشروع العروبي.

هل يتكرر الأمر اليوم؟

لم تتراجع بطولة الشعب الفلسطيني  بل زادت ابتكاراته النضالية، ولكن بقي التضخيم والتمويل.

من يتابع الفضائيات، وهذه لم  تكن عام 1967 وما بعده، جميع الفضائيات، لا يمكنه عدم ملاحظة التضخيم الهائل للنضال الفلسطيني. وهنا يجب التفريق بين:

·       الجاهزية للاستشهاد

·       وبين توفر القدرة الفلسطينية وحدها على التحرير.

ومن يتجاهل هذا عليه أن يراجع ضميره وعلى الناس الدخول في قلبه لاكتشاف غرفة سوداء فيه، أذكر هذا فقط بهدف الحذر.

التضخيم هو نفسه بقصد اقتلاع القضية من عمقها العربي، وهذا اقول لكم بصراحة قاتل ومقتل للقضية. وعليه، من أراد أن يكذب فليكذب.

لذا، يخلو الإعلام من نقد الأنظمة العربية وملحقها الإسلامية في التصدي في اي مستوى حيث كانت تجربة جنين مفاجئة في هذا المستوى.

كما دعمت أنظمة العراق وسوريا وليبيا واليمن الجنوبي مختلف فصائل المقاومة بالسلاح والمال والتدريب إلى أن جرى تدميرها بالاستشراق الإرهابي، فإن إيران تدعم الفصائل اليوم بالسلاح والمال، وبالمقابل فالأنظمة العربية الحالية في معظمها كان من طراز “سمعان مش هان”! وهذا يفتح على وحدة الساحات.

✺ ✺ ✺ 

 هل خرجنا من العباءة العثمانية

موفق محادين

بين حزيران 1916 وحزيران 2023 الذي أظهر أن قسما كبيرا من الشارع العربي احتفى بفوز أردوغان صاحب النزعات العثمانية التوسعية المعلنة، من حقنا أن نسأل: هل خرجنا من العباءة العثمانية أم أن هذه العباءة ظلت موجودة بأشكال مختلفة رغم محطات الصراع المريرة بيننا وبين الاحتلال العثماني.

قبل أن نعيد قراءة حزيران الأول 1916 فإن المقاومة العربية لهذا الاحتلال أبعد وأعمق من ذلك، فعلى خلاف ما هو شائع اصطدم العرب والأتراك في محطات عديدة قبل الحرب العالمية الأولى، ومن ذلك:

·         الصدام الأول في نهاية العهد الأموي وبداية العهد العباسي، وكان مع الأتراك اليهود أو ما يعرف بدولة الخزر بعد تهوّد بلاطها، وهو ما يذكره ابن فضلان في رحلته إلى ملك البلغار لدعمه ضد ملك الخزر بتكليف من الخليفة العباسي.

·         استهداف السلاجقة وقتل وزيرهم الأكبر، نظام الملك من قبل أشياع الإسماعيلية النزارية بقيادة الحسن الصباح، الذين وضعوا السلاجقة والأيوبيين وملوك وقادة الصليبيين هدفا لهم.

·         وقف الانتصارات التركية في المنطقة العربية التي بدأت عام 1516 في مرج دابق شمال سوريا، وذلك حين تمكن إمام اليمن الزيدي من إلحاق هزيمة كبيرة بالأتراك 1546 وطرد اليهود بعد ذلك والذين كانوا يوصفون بعيون تركيا العثمانية في صنعاء.

·         ثورة حاكم عكا، ضاهر العمر الزيداني على الأتراك وهزيمتهم بالتحالف مع قبائل من جبل عامل الشيعي وجبل الشوف الدرزي قبل أن يتمكن الأتراك بدعم الاسطول البريطاني من هزيمة العمر.

·         ثورة حاكم مصر، محمد علي على السلطنة العثمانية وهزيمة جيوشها وحصار إسطنبول نفسها قبل أن تتحالف بريطانيا وامبراطورية النمسا والمجر وروسيا القيصرية ضده بتمويل من اليهودي روتشيلد وتجبره على الانسحاب إلى مصر.

·         ثورة حلب آواخر القرن التاسع عشر وقصف المدينة بالمدفعية من قبل الأتراك.

·         ثورة الكرك جنوب الأردن بالتزامن مع ثورة جبل العرب والدروز 1910 وقد أخمدتا باستخدام المدفعية وإعدام العشرات من قادة القبائل.

الثورة العربية أم الثورة السورية الكبرى

يختلف المؤرخون في تقييم الثورة العربية الكبرى عام 1916 ضد الاحتلال التركي، فبالإضافة إلى ما هو معروف وشائع عنها وعن اسمها وعنوانها، الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين بن علي، هناك من يرى أنها ثورة سورية كبرى بغطاء ديني من شريف مكة مقابل الغطاء السلطاني للدولة التركية، وأن برنامج الثورة وحدودها وقياداتها العسكرية يسمح بالقول أنها إرهاصات دولة سوق قومي برجوازية للبرجوازية السورية وحدود أسواقها التي لم تمتد إلى أفريقيا العربية، شأنها في ذلك شأن كل الثورات القومية البرجوازية التي انبثقت من إمبراطوريات إقطاعية متفسخة، وكانت في الوقت نفسه جزءا من تجاذبات المراكز الأوروبية المتصارعة واقلام الاستخبارات فيها.

يشار كذلك إلى اعتبارات أخرى منها:

·         دخول السعودية على خط تنسيب الثورة لها من خلال مسلسل سفر برلك الذي عرض في الدورة الرمضانية السابقة.

·         سياسات التتريك العنصرية ضد العرب وغيرهم من الشعوب المغلوبة.

·         بخلاف ما هو شائع في أدبيات الجماعات الإسلامية أنها ثورة ضد خلافة إسلامية، فالجماعة الحاكمة والمتنفذة في إسطنبول آنذاك كانت جماعة الاتحاد والترقي العلمانية.

·         أن تركيا ليست دولة خلافة أصلا، بل سلطنة، ولم يتصرف أي سلطان من سلاطينها كخليفة للمسلمين، بل أن هؤلاء السلاطين لم يحجوا أبدا إلى مكة ولم يسدلوا الكسوة على الكعبة.

في المحصلة:

أولا، الثورة العربية الكبرى، سواء كانت سورية بغطاء ديني أو كانت مشروعا لأشراف الحجاز، وسواء قاموا بذلك بالتنسيق مع الانجليز لغايات عامة أو خاصة، فالملاحظة الأساسية حولها هي وهم البحث عن استقلال أو سلطة على مستوى الأمة بالاعتماد على الاستعمار بدل ثورة تستلهم خطابها من استقلال وطني وقومي حقيقي.

ثانيا، بسبب نمط الإنتاج الإقطاعي الشرقي ممثلا بالنمط العثماني، لم تتوفر الشروط الموضوعية لثورة برجوازية قومية على غرار ثورات العصر القومي البرجوازي في أوروبا، وهو الأمر الذي سهل على المستعمرين والمحتلين الأوروبيين الجدد تحويل الولايات العثمانية إلى كيانات قطرية وهويات مشرذمة تابعة للمتروبولات الرأسمالية المنتصرة في الحرب العالمية الأولى.

هل خرج العرب من العباءة العثمانية

تحت هذا العنوان نتساءل في إطار النموذجين التاليين، العسكري والإسلاموي:

أولا، النموذج العسكري ممثلا بتجربة مصطفى كمال أتاتورك والذي يستدعي أيضا مقاربة (القبيلة والجيش) سواء في الحالة التركية، قبيلة ال عثمان والجيش التركي ما بعد السلطاني أو في الحالة العربية، قريش والجيش وموقع الشرعية في الحالتين.

مقابل دور الجيش ومصطفى كمال في تركيا كان أول انعكاس عربي لذلك في العراق، سواء في حالة حركة الجيش بقيادة بكر صدقي في ثلاثينيات القرن الماضي أو في حالة الانقلابات العسكرية السورية عامي 1949 و1950 (الزعيم، الحناوي والشيشكلي).

أما التعبير الأوضح لهذه المعادلة الذي يتعلق بالصراع على الشرعية التاريخية فهو حركة الجيش المصري في 23 يوليو (تموز) 1952 وحركة الجيش العراقي في 14 يوليو (تموز) 1958.

ثانيا، النموذج الإسلاموي في عصر رأسمالي، تلازم هذا النموذج في كل مرة مع معطيات إقليمية ودولية، تموضع فيها هذا النموذج مع الغرب الأوروبي والأمريكي مقابل الاتحاد السوفييتي وحركة التحرر العربية، وتعود جذوره إلى ما قبل ذلك في اصطفاف مماثل حين دعمت بريطانيا الملك فؤاد في مصر لإعادة إنتاج شكل من الخلافة دخل في تجاذبات محلية أسقطته عمليا رغم أن بطلها الشيخ علي عبد الرازق طرد من الأزهر لأنه واجه دعوة الملك وقال في كتابه الإسلام وأصول الحكم أن لا خلافة سياسية في الإسلام، وكان الشيخ جمال الدين الأفغاني والشيخ رشيد رضا قد حاولا تعميم فكرة مماثلة لفكرة الملك فؤاد.

يشار كذلك إلى ولادة تنظيمين من رحم هذه الأفكار، هما حزب التحرير وجماعة الإخوان المسلمين التي اتهمها خصومها بتلقي أموال من قلم الاستخبارات في شركة قناة السويس البريطانية، كما يشار إلى أنه حيث فشلت بريطانيا في الشرق العربي، نجحت في اختراق الرابطة الإسلامية في الهند والرد على حركة التحرر الوطني الهندية بقيادة غاندي ونهرو بدعم خروج الباكستان عنها.

ويشير خصوم محمد أسد، أحد أبرز المدافعين عن استقلال الباكستان أنه لم يكن سوى (يهودي متخفي) بالنظر إلى تحوله المتأخر من يهودي نمساوي باسم ليوبولد فايس إلى مسلم باكستاني.

على الصعيد التركي، فإن العودة إلى التوظيف السياسي للإسلام بدأت مع وفاة مصطفى كمال وتفسخ حزب الشعب العلماني وصولا إلى تأسيس حزب جديد هو الحزب الديموقراطي الذي أخذ يغازل الإسلاميين السابقين في تركيا وخارجها من مواقع أطلسية أمريكية إسرائيلية صريحة، فبعد فوزه المتكرر بقيادة عدنان مندريس في عقد الخمسينيات من القرن الماضي، اعترف بـ (إسرائيل) وفتح تركيا للقواعد العسكرية الأمريكية وحلف الناتو والبنك الدولي وأطلق مع حليفه نوري السعيد في العراق حلف بغداد – أنقره، الذراع الجنوبي لحلف الأطلسي.

وبالإضافة لحليفه العراقي المذكور، كان العهد الجديد في تركيا آنذاك يسعى لاستعادة النفوذ التركي السابق في الوطن العربي، سواء بإنعاش الرجعية ضد موسكو وحركة التحرر أو بإطلاقه فكرة مؤتمر إسلامي من طينته.

المحطة الثانية، من النموذج الإسلامي في تركيا، هي المحطة الحالية بقيادة حزب العدالة والتنمية وذلك باعتماد إسطنبول مركزا لهذا النموذج والمنصة الإعلامية المعروفة في الخليج والشارع الإخواني، وذلك انطلاقا من تفكيك الهوية القومية لصالح هويات طائفية ومذهبية متناحرة تسمح لإسطنبول بأن تكون مركزا لأكبر الهويات المذهبية في الوطن العربي.

✺ ✺ ✺

أشباح بيروت”: غبارٌ على حذاء صانع التاريخ

سعيد محمد

الدّراما الوثائقية من شبكة شوتايم عن عمليّة اغتيال الشهيد عماد مغنيّة لم تقدّم شيئاً على مستوى توثيق الحدث، وتعثّر المسار الدّرامي فيها مع سذاجة الحوارات، وضعف أداء معظم الممثلين، وتسطّح الشخصيات، وفقدان أدنى مستويات المصداقيّة التاريخيّة حتى بدى العمل وكأنّه منتج دعائيّ محض مكرّس لتشويه السمعة الشخصيّة للقائد العربيّ الكبير ووصم بيئته لا أكثر. “أشباح بيروتمحاولة لتملك السرديّة التاريخيّة عن لحظة المقاومة الساطعة سقطت تحت ثقل طموحاتها الذاتية، وفشلها في الخيال والإقناع والتوثيق معاً، ولم تساعدها محدودية مواهب فريق عملها، فتناثرت مثل ذرات غبار مسودّ على حذاء الرجل الذي غيّر تاريخ المنطقة.

سعيد محمّد – لندن

لعقود طويلة ظل عماد مغنيّة (1962 – 2008)، أحد ألمع القادة الثوريين العرب في التاريخ، كما الشوكة في حلق المخابرات المركزيّة الأمريكيّة والموساد الإسرائيلي، وتتابعت أجيال من جواسيس الجهازين وعملائهم في شرق المتوسط على تعقبه بعدما نسبت إليه مجموعة من أقسى الضربات التي تعرضت لها القوات الأمريكيّة والإسرائيليّة بما في ذلك تصفية العديد من كبار ضباط المخابرات الأمريكيّة في الشرق الأوسط، قبل أن يقوم بقيادة العمل العسكري لحزب الله، الظاهرة الأبرز في تاريخ تجارب المقاومة منذ انتصار فيتنام في السبعينيات من القرن الماضي.

الرّجل الذي تم اغتياله ذات فبراير بدمشق 2008 في عمليّة معقدة مشتركة بين أجهزة المخابرات الأمريكيّة والإسرائيلية (وربمّا الأردنيّة) نفذّها فريق من العملاء والجواسيس على الأرض بدعم وتنسيق دقيق بين الجيشين الأمريكي والإسرائيلي، يحظى، برغم كل العداء المتوارث، باحترام الخبراء والمتخصصين كأحد أهم العقول العسكريّة التي واجهت أعتى منظمات التجسس في العالم، وألحقت هزائم بقيت مرارتها في فم الأمريكيين والإسرائيليين وعملائهم في المنطقة إلى اليوم، ناهيك بالطبع عن مكانته الرّفيعة كبطل مكرّس في قلوب الملايين من أبناء شعوب الجنوب.  

تحفّظ حزب الله عن كشف تفاصيل عمليّة الاغتيال، ونفى الإسرائيليون وقتها مسؤوليتهم، فيما تظاهر الأمريكيّون بالصمم، وإن عبّرت مصادر متعددة المستويات عن حبورها بالتخلّص ممن اتهموه بقتل أكبر عدد من الأمريكيين بين حرب فيتنام وحادثة الحادي عشر من سبتمبر. على أن رصد تحركات القوات الإسرائيلية خلال وقت تنفيذ الاغتيال ومعلومات متقاطعة تسربت لاحقاً عبر جريدة واشنطن بوست المقربّة من غرف صنع القرار الأمريكيّ وصنداي تايمز البريطانية المعروفة باطلاعها على شؤون الموساد وأيضاً اعترافات جانبيّة لجاسوس فلسطيني-أردني الجنسيّة قبضت عليه السلطات السوريّة، بدأت صورة أوضح بالتكوّن عن ضخامة العمليّة التي نفّذت، والجهات المشاركة فيها. لكن القصّة الكاملة ما تزال حبيسة الأدراج في لانغلي وتل أبيب (وعمّان)، وعلى الأغلب لن يفرج عن الوثائق المتعلقة بها قبل ثلاثين أو خمسين عاماً.

ولذلك عندما أعلنت شوتايم الأمريكيّة عن وثائقي/ درامي تعتزم انتاجه عن عمليّة الاغتيال بتعاون جهات أمريكية وإسرائيليّة، ذهب البعض إلى التّفاؤل بالكشف عن تفاصيل لم تكن معروفة من قبل، لا سيّما وقد فُهم حينها بأن الصيغة التي اعتمدت للعمل تتضمن شهادات من ضباط سابقين في الأجهزة الاستخباراتية في البلدين، والتّعاون مع أطراف لبنانيّة (مطّلعة)، وأن الشبكة وعدت “بنهج سردي مبتكر معزز بالبحث الصحفي العميق والعناصر الوثائقية”.

لكن كم كانت خيبة الأمل المتفائلين بما سمي لاحقاً ب” أشباح بيروت” كبيرة مرّتين: الأولى عندما أعلنت أسماء الفريق. إذ كلّف بالإخراج الأمريكي جريج باركر الذي كان أخرج وثائقي “المطاردة” عن كتاب بروباغاندا رخيص بدا واضحاً أنّه يروّج لأسطورة العداء الأمريكي لأسامة بن لادن – الذي طالما كان ضابط الارتباط في المؤامرة الأمريكية الباكستانية السعوديّة المشتركة لإسقاط الحكم الوطني في أفغانستان، واستبداله بمجاهدي لانغلي (النسخة الأوليّة من الدواعش) -. ذلك الوثائقي، كان كارثة فنيّة رغم كل الدّعم الذي تلقاه باركر من الأجهزة الأمنية الأمريكيّة، وبدا أقرب إلى استعراض لوظائف فريق طويل عريض قيل لنا أنه كان متفرغاً لمطاردة بن لادن لأكثر من عقد.

أما صانعا الفيلم فهُما الإسرائيليان آفي يسخاروف وليئور راز القائمين على انتاج “فوضى” (أربع مواسم على نيتفليكس)، المسلسل الدّرامي السخيف الذي يحكي دفق انتصارات متخيّلة لفرق المستعربين في الضفة الغربيّة وغزّة (والضاحية الجنوبيّة في الموسم الأخير)، ويتعاطاه الإسرائيليون كمعالجة نفسيّة للتّعاطي مع أزمتهم الوجوديّة في الصراع الذي لن يتوقف مع العرب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وقد استعان صانعا الفيلم باللبنانية جويل توما ككاتبة سيناريو ومنتجة تنفيذية مشاركة – وتوما لمن لا يعرفها كانت زوجة زياد دويري المخرج اللبناني المتصهين وعملت معه على انتاج أفلام إسرائيلية وعداؤها للمقاومة قديم -، وطاقم من الممثلين إسرائيليين وأمريكيين وعرباً أبرزهم من عرب إسرائيل (أمير خوري في دور مغنيّة شاباً وهشام سليمان في دوره وقت الاغتيال)، ولبنانيي المهجر (دينا الشهابي في دور لينا عسيران عميلة المخابرات الأمريكيّة)، والمغاربة (خالد بن شقرا) وممثل إيراني الاصل (قام بدور المسؤول الإيراني أصغري)، فيما تمّ التصوير في المغرب الشقيق – حيث الأبواب مشرعة للإسرائيليين وأفلامهم –، وبتمويل إماراتي سخيّ.

أما مروحة المقابلات الواقعية مع مسؤولين (رفيعي المستوى) من وكالة المخابرات المركزية والموساد فضمت – فيمن ضمت – حنين غدّار، المهرجة من معهد واشنطن (الاستخباراتي)، والتي تقف على يمين صقور العداء لحزب الله في الإدارة الأمريكيّة، وتعمل كنائحة عبرانيّة مستأجرة للتخويف من المقاومة.

 مع هكذا فريق عمل يقطر سمّاً، تخرج كل موضوعيّة من الصورة تماماً، وتتوقع – مصيباً – بأنّك ستحصل على وجبة ثقيلة من البروباغاندا وتشويه السمعة وتزوير التاريخ التي يدفعها محض العداء المريض تجاه قائد عربيّ أثخن في الأمريكيين والإسرائيليين كما لم يفعل أحد من قبل.

بعد هذه الخيبة الأولى، جاءت الثانية لدى عرض العمل الذي أطلق في أربع حلقات أسبوعية من 19 مايو الماضي على شبكة شوتايم في الولايات المتحدة وشبكة يس الإسرائيلية، فيما ستبدأ منصة براماونت بلس بعرضه في المملكة المتحدة وأوروبا قريباً.

تبدأ كل حلقة بتخل صريح عن المضمون: “هذا سرد خياليّ لأحداث تم البحث بشأنها بعمق”. وسريعاً سنجد من المادة المعروضة سواء دراميّة أو شهادات موثقة أن ما يقدّم بالفعل ليس إلا تخرصات توما الإستشراقيّة الطابع حول دوافع مغنية ورجاله لمقاومة الاحتلال (نقضي جزءاً كبيراً من الحلقة الأولى ومغنية يقنع أحمد قصير بأن يضغط زر التفجير ليذهب إلى الجنة، وأنّه إن فعل فسوف يوزع اسمه على الصحف وتعلق صوره على الجدران – علماً بأن اسم أحمد قصير لم يعرف قبل مرور ثلاث سنوات على عمليته البطولية)، وتصورهم كمهووسين عاطفين، معزولين عن بيئتهم، ومدفوعين حصراً بأوامر (وأموال) تأتي من طهران.

إلى جانب شخصية مغنية ومحيطه المباشر، نغرق في المقابل مع صف طويل من الشخصيات على الجانبين الأمريكي والإسرائيلي – إضافة إلى اللبنانيين بمن فيهم نبيه برى – الذين يتتابعون في الظهور دون أن يحصل أيّ منهم على وقت كاف لتقديم أي عمق إنسانيّ أو تاريخيّ وراء اندفاعهم المحموم لإسقاط مغنيّة، مع إضافات باهتة بلا توقيت مفهوم لشهادات الخبراء والمعنيين، فبدت  هذه كما فقاعات تائهة من التوثيق الفارغ على سطح دراما ضحلة. وحتى (الأبطال) الذين يتم تلميعهم ويفترض بنا أن نتعاطف مع حربهم الدائمة ضد “أخطر إرهابيّ في العالم”: عميل الموساد تيدي (الممثل الإسرائيلي إيدو غولدبرغ) وعميلة المخابرات الأمريكية لينا (دينا الشهابي)، فإن الطرح لا يسمح بتطوير فهمنا لدوافعهم بأبعد كثيراً من صيغة أننا “يجب أن نعثر على هذا الرّجل” مضيعاً فرصة ذهبية – نادرة في هذه العمل – عبّر عنها تيدي حول الشعور الممض بمطاردة إنسان لقتله غيله، وهاجس لينا بعدم القبول بها عند السادة البيض بسبب قرابتها من عضو في حزب الله لتطويرهما، ما يميت أيّ زخم متوقع في تطوّر مسارات السّرد.

تدريجياً، وبعد أن يبدأ الملل يتسرب إلى قلوبنا من سذاجة الحوارات، وضعف أداء معظم الممثلين، تتكشف حقيقة خواء “أشباح بيروت”. تعثّر في الدراما، وهزالة بالتوثيق، واستخفاف بالحقائق. فليس هنالك أيّ لحم على هذا الهيكل المتداعي من بنات أفكار توما. وحتماً كان يمكن لي توفير الأربع ساعات والحصول على معلومات أكثر ثراء بما لا يقاس عبر جولة على مواقع الإنترنت خلال نصف ساعة بحثاً عن “عماد مغنية”.

يبدو لي أن فشل “أشباح بيروت” الذريع متأت من محاولة العمل أن يكون أشياء كثيرة في وقت، سياسيّة وتاريخيّة واجتماعيّة وسايكولوجيّة وفنية، فيفشل فيها جميعاً. فلا هو يوضّح للمشاهد المناخ العام لخلفيات الصراع العربي الإسرائيلو-أمريكي في شرق المتوسط التي قادت (الأبطال) و(الأشرار) إلى الصدام في هذه اللحظة من التاريخ، ويسقط في فخ تلفيق الأحداث المعروفة ما يفقده كل مصداقية حول الأحداث غير المعروفة، وتنحسر طاقته تماماً عندما معالجة الجوانب الثقافية لبيئة الأحداث – على الجانبين -، ويتناثر كما غبار عندما يحاول الإساءة لمسلك مغنية الشخصي في أذهان محبيه (نوادي ليل، وعشق محرّم، وسعي لإبادة العبران بالسلاح الكيماوي ..)، ويعجز عن الاحتفاظ بخط توتر درامي ممتد من الحلقة الأولى إلى الأخيرة لينتهي بالاغتيال – المتوقع سلفاً – دون استفادة من اللحظة الحاسمة لا درامياً ولا وثائقياً، بل استدعاء لحنين غدّار التي لا تخفي شماتتها المنحرفة بمقتل مغنية وتردد ذات التفاهة المجترة التي سمعناها منذ حرب أفغانستان، فغزو العراق، فالعدوان على ليبيا، فالحرب على سوريا عن الجمهور العربيّ البائس الذي يرى صورة بطله المقتول على صفحة القمر. حسناً، عماد مغنية كان عندكم وحشاً – كما كان لينين وستالين وكاسترو وجيفارا وهوشي منه ووديع حداد – ولكن إذا لم يقدّم “أشباح بيروت” معلومات عن كيف قتلتموه، ولم يفسّر الخلفية التي دفعت شاباً عربياً شديد الدماثة واللطف والذكاء مثله (جيرانه في دمشق ظنوا أنه كان مجرد سائق في السفارة الإيرانية) كي يتحوّل إلى جنرال عسكريّ يخوض مواجهة قاسية مع الإمبراطوريّة الأمريكيّة بعظمتها فيأتي برأسها إلى الأرض، فما هو المبرر لي كمشاهد كي أستثمر 240 دقيقة متسمراً أمام شاشة شو تايم؟

وفوق ذلك يبدو العمل متردداً في تحديد جمهوره المخاطب. فلا هو مقنع للجمهور الغربيّ الذي على جهله بالمنطقة وتفاصيل الصراعات فيها لم تعد تقنعه الثنائيّات: صيغ الكابوي الخيّر مقابل الهندي الأحمر الشرير، الغربي (بذيله العبراني) مقابل الشرقي (العربي والمسلم)، ولا هو كاف لإرضاء غرور الجمهور الإسرائيلي الذي يجد كل يوم أن تغييب (الشبح) مغنية – غدراً وهو الذي أذلهم في كل الساحات والمعارك – لم يلغ عشرات الآلاف من أشباح آخرين الذين ربّاهم الشهيد وصاروا الرقم الذي لا يمكن تجاوزه في معادلة المنطقة الأصعب، ولن يكون بأي حال كافياً لزعزعة مكانة القائد صانع التاريخ المشرّف في زمان التخلي والذّل، ناهيك بالطبع عن تعاسة المنتج كعمل دراميّ محض في أجواء أعمال الجاسوسية والعمل السري التي تقدمت عشرات الأميال عن المكان الذي وقف عنده “أشباح بيروت”.

باهت، وموتور، ومسطّح، وعاجز هذا العمل، وخطوة ناقصة حتى بمقياس “فوضى” يا آفي وليئور.

عماد مغنيّة يستحق حتى لإدانته من وجهة نظر أعدائه إلى عمل أفضل بكثير من قدرة فريق “أشباح بيروت”: خيال باركر المحدود، وبلاهة نصّ توما، وثقل دم (هشام) سليمان، وثغاء (حنين) غدار. أيها العبران: جرّبوا حظّكم مرّة أخرى، بينما نستمرّ هنا في التأسيس على ما بناه عماد مغنية إلى أن يحين موعد اقتلاعكم من الجذور.

:::::

جريدة الأخبار اللبنانيّة، 11 يوليو 2023

________

تابعونا على:

  • على موقعنا:
https://kanaanonline.org/
  • توتير:
  • فيس بوك:
https://www.facebook.com/kanaanonline/
  • ملاحظة من “كنعان”:

“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.

ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.

  • عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
  • يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org

Editor Editor

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *