مشروع التحرير الوطني الفلسطيني: قراءة من أجل التاريخ والمستقبل (2)

 مشروع التحرير الوطني الفلسطيني: قراءة من أجل التاريخ والمستقبل (2)

علم فلسطين

مسعد عربيد وأسامة عمّوري

سنوزع هذه الدراسة على الأقسام التالية:

الجزء الأول: طبيعة الأزمة

الجزء الثاني: قراءة عاجلة في المشهد الراهن

الجزء الثالث: تحديات وإشكاليات المرحلة

الجزء الرابع: الخلل في فهم المشروع الصهيوني – الإمبريالي

الجزء الخامس: تفنيد الأكاذيب أو كيف يتم تخريب الوعي الشعبي؟

الجزء السادس: تصورات المستقبل ومهماته

ملحقات

ملحق (1): محطات رئيسية في مسيرة التخلي عن مشروع التحرير

ملحق (2): برنامج النقاط العشر (بين 1-8 يونيو 1974)

ملحق (3): قرارات المجلس الوطني الفلسطيني (15 نوفمبر 1988)

ملحق (4): تعديل/إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني

مدخل

لم تكد تمضي سنوات قليلة على نكبة فلسطين عام 1948، والتي أسفرت عن اغتصاب 78% من أرض فلسطين وتدميرٍ شامل لكافة مقومات المجتمع والكيان الفلسطينيْين، حتى استعاد الشعب الفلسطيني زمام قضيته وأخذ يلملم قدراته ليواصل كفاحه في سبيل تحرير الوطن المحتل. ومع حلول أواخر خمسينيات القرن الماضي، ورغم ظروف التشرد والشتات، ظهرت في الحياة السياسية الفلسطينية دعوات ومبادرات وتنظيمات تسعى لتنظيم قوى الشعب الفلسطيني وتجنيدها في طلائع فدائية للنضال من أجل تحرير فلسطين ومقاومة المشروع الصهيوني – الإمبريالي في فلسطين والوطن العربي، وهي مسيرة لم تتوقف منذ بواكير الغزوة الصهيونية الاستيطانية لبلادنا في أواخر القرن التاسع عشر.

ومع بلوغ منتصف الستينيات، ورغم التجاذبات والخلافات بين الأنظمة العربية آنذاك، تكاثرت المنظمات الفدائية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وصولاً إلى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينيه (م.ت.ف.) في القدس في أيّار 1964. وعلى إثر هزيمة حزيران 1967، شهدنا تصاعداً لافتاً لقوى المقاومة الفلسطينية والتحاق الجماهير الفلسطينية والعربية بها، وكان النصر في معركة الكرامة (آذار 1968) عنواناً ورمزاً لها.

جدير بالذكر والتذكير في هذا السياق، أن حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة نهضت، قبل احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 – بالإضافة إلى الأراضي العربية في سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية – لتشكّل (المقاومة) استمراراً لكفاح شعبنا من أجل تحرير فلسطين المحتلة عام 1948، ومع احتلال الضفة والقطاع، أصبح هدف الكفاح الفلسطيني تحرير كامل تراب فلسطين من النهر إلى البحر.

هكذا تبلور الهدف الوطني للشعب الفلسطيني فيما بعد هزيمة حزيران 1967، وعلى أساسه التحقت جموع المناضلين الفلسطينيين والعرب بحركة المقاومة الفلسطينية، تعبيراً عن إرادة شعبنا وأمتنا العربية في استمرار الكفاح من أجل تحرير فلسطين، وتجسيداً لثباتها في مناهضة المشروع الصهيوني – الإمبريالي في فلسطين والوطن العربي.

مع مطلع سبعينيات القرن الماضي، شرعت بعض فصائل منظمة التحرير وتيارات في داخل بعضها بإطلاق طروحات تدعو إلى القبول بدولة على أي جزءٍ من أراضي فلسطين المحتلة، وشهدت هذه المرحلة الكثير من التجاذبات والخلافات بين صفوف الفصائل الفلسطينية، إلى أن حسمت قيادة م.ت.ف. قرارها في الدورة الثانية عشر للمجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في حزيران 1974 والذي أُطلق عليه اسم “برنامج النقاط العشر” أو “البرنامج المرحلي”. وقد نصّ هذا البرنامج في بنده الثاني على أن “تناضل منظمة التحرير بكافة الوسائل وعلى رأسها الكفاح المسلح لتحرير الأرض الفلسطينية، وإقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على أي جزء من الأرض الفلسطينية التي يتم تحريرها، وهذا يستدعي إحداث المزيد من التغيير في ميزان القوى لصالح شعبنا ونضاله”. ثم عاد هذا البرنامج في بنده الثالث ليأكد على أن “تناضل منظمة التحرير ضد أي مشروع كيان فلسطيني ثمنه الاعتراف والصلح والحدود الآمنة، والتنازل عن الحق الوطني، وحرمان شعبنا من حقوقه في العودة وحقه في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني.” وليس خافياً أن التطورات التي تلت عام 1974، لم تكن في حقيقتها سوى استثماراً لما سعت إليه قيادة م.ت.ف. والتي كانت انتهاكاً للثوابت الوطنية والقومية بما فيها ما جاء في البند الثالث، وذلك إمعاناً في خداع شعبنا، ومن أجل تمرير خطاب القيادة الفلسطينية المتنفذة ب م.ت.ف. ونهجها الاستسلامي وسعيها وراء وهم الدولة.

منذ تصفية الوجود العسكري للمقاومة الفلسطينية في الأردن – معارك الأحراش في تمّوز 1971، وربما قبل ذلك في صفوف قيادات بعض الفصائل، وتحديداً بعد إقرار البرنامج المرحلي ل م.ت.ف. في حزيران 1974 – منذ تلك الآونة أصبحت فكرة ما أسموه “السلطة الوطنية الفلسطينية” هي الفكرة المهيمنة في الساحة الفلسطينية. ولم تكن هذه التسمية في دلالاتها الحقيقية سوى “الدولة”، “الحكم الذاتي”، اي الاستدوال بمعنى السعي لتأسيس هذه الدولة. هكذا تم الانتقال من مشروع تحرير فلسطين إلى مشروع إقامة دولة.

جاءت هذه التطورات لتمثل سيلاً من التنازلات للعدو الصهيوني – الإمبريالي حتى انتهت قيادة م.ت.ف. إلى اتفاقية أوسلو واعترافها ب”إسرائيل” وشرعية الكيان الصهيوني على 78% من أرض فلسطين والتخلي عن مشروع وهدف تحرير كامل التراب الفلسطيني.

■■■

من أجل معالجة الأزمة التي تعيشها الحركة الوطنية الفلسطينية، لا بد من الإجابة على الأسئلة التالية:

– ما هي جذور الأزمة التي يعيشها الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية؟

– كيف هَوَيْنا إلى هذا الحضيض المُذل، وتخلينا عن مشروع التحرير الوطني، وأخذنا نلهث وراء سراب “الدولة” المسخ؟

– وكيف وصلنا إلى مرحلة التوسل للحصول على “سلطة” هي أدنى بكثير من “حكم ذاتي”، بل أصبحنا “شركاء” منسقين مع العدو المحتل في اصطياد مناضلي شعبنا وتصفيتهم؟

– ما العمل؟ وما هو درب الخلاص من هذه المصيدة؟

أسئلة ليس بوسع أحدٍ لوحده أو جهةٍ لوحدها أن يزعم الإجابة عليها أو امتلاك رؤية سياسية شاملة للأزمة التي نمر بها ولا حلولاً جاهزة وكاملة. وعليه، فإن ما نقدمه في هذا البحث هو رؤية استشرافيه منفتحة على كافة الأطراف للإسهام فيها.

الجزء الأول

طبيعة الأزمة

تناولنا أعلاه بشكل مقتضب ملامح الأزمة العميقة التي تعصف بمشروع التحرير الوطني الفلسطيني، والتي تطال برنامجه وقيادته وآليات عملة. ويكمن السبب الرئيسي لهذه الأزمة في التناقضبين:

(1) استراتيجية وهدف تحرير كامل تراب فلسطين من الاستعمار الاستيطاني الصهيوني وإنهاء المشروع الصهيوني – الإمبريالي في فلسطين والوطن العربي، من جهة؛

و(2) الطبيعة الطبقية البرجوازية للقيادات الفلسطينية المهيمنة، وهنا فأننا نتحدث هنا عن شريحة طبقية معينة هي شريحة الوكلاء المرتبطة برأسمال الاستعماري، و أصبحت جزءً من مصالحه، ولا نتحدث عن البورجوازية الوطنية التي تنمّي الاقتصاد الوطني الصناعي والزراعي وقطاعات الاقتصاد الأخرى. وليس خافياً أن شرعية هؤلاء الوكلاء مستمدة تاريخياً من كون بعضهم من مؤسسي م. ت. ف. من جهة، والقيادات الفلسطينية المتنفذة والتي لها بدورها برنامجها الاقتصادي – السياسي الذي يعبر عن مصالحها الطبقية والاقتصادية، من جهة أخرى. وللحفاظ على هذه المواقع والمصالح، تنتهج هذه الطبقة السياسات التي تحقق ذلك، فقد هادنت العدو الصهيوني – الإمبريالي وقدمت له التنازل تلو الآخر حتى وصل بها الأمر إلى التخلي عن برنامج التحرير الوطني.

تستمر هذه القيادة – بفضل سيطرتها على صناعة القرار في الحركة الفلسطينية وإدارة السلطة والحكم الذاتي بعد اتفاقات أوسلو وسيطرتها شبه المطلقة على م.ت.ف. في إدعائها بأنها ما زالت تتبنى برنامج التحرير الوطني وتناضل من “أجل ثورة حتى النصر”، وتدّعي الالتزام بالثوابت الوطنية وحقوق الشعب الفلسطيني، رغم كل التنازلات التي قدمتها وتخليها الكامل عن مشروع التحرير الوطني والإنصياع التام للإملاءات الصهيو- إمبريالية. وهو ما تؤكده تجارب الشعوب عبر التاريخ: فكل طبقة تصل إلى السلطة تصبح مضطرة، من أجل تحقيق غاياتها، لتصوير مصلحتها وكأنها تمثل المصلحة المشتركة العامة للمجتمع بأسره. ومن هنا تتم صياغة هذه المصالح والتعبير عنها في الخطاب السائد وكأنها خير للمجتمع بأسره بحيث يضحى رفض مثل هذه الأفكار ضرباً من التفكير غير العقلاني.

الانحراف من مشروع “التحرير” إلى مشروع “الدولة”

المقصود هنا التخلي عن مشروع تحرير فلسطين مقابل السعي وراء دولة/دويلة/سلطة/حكم إداري ذاتي محدود… وغيرها من المسميات نكثفها بمصطلح “الاستدوال” أي السعي نحو “الدولة”.

والحقيقة أن الاستدوال هو وهم مُتخيل من صناعة القيادة الفلسطينية، ولكنه تجسيد مادي لمصالح طبقية واقتصادية وسياسية للقيادة الممثلة لشريحة وكلاء رأسمال الاستعماري/الامبريالي. فلم يعرض أحد على الفلسطينيين دولة، بل كانت القيادة الفلسطينية هي التي توهمت “وتأملت” أن تحصل عليها وتطوعت بالقبول بها متنازلة عن هدف التحرير. وحتى قرار مجلس الأمن 242 سيئ الصيت لم يعرض على الفلسطينيين أي كيان أو دولة، بل طالب بانسحاب الكيان الصهيوني من الأراضي التي احتلها في حرب حزيران 1967.

لقد جاء سعي هذه القيادة وراء وهم الدولة المزعومة لعدة أسباب وعوامل أهمها:

– سعيها لإقامة سلطة/كيان يحقق لها مصالحها الطبقية والاقتصادية؛

– ولكنه جاء ايضاً، نتيجة قراءة قاصرة للواقع السياسي على كافة الأصعدة، المحلية والعربية والدولية؛

– والأخطر في هذا كله خلل بنيوي في فهم القيادة للمشروع الصيهيوني – الإمبريالي، والذي هو أكبر من الكيان الذي قام على أراضي الاحتلال الأول عام 1948، ويشمل بوضوح ودون لبس الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلها في حرب حزيران 1967، ولكنه، بالإضافة، يسعى إلى الهيمنة على الوطن العربي ومقدراته وإحكام تبعيته للمركز الرأسمالي؛

– هنا يتضح الخلل الأكبر في مسار السعي وراء الدولة والذي انتهى بالاعتراف بالكيان الصهيوني، أي شرعنة احتلال واستيطان فلسطين وتشريد شعبها لإحلاله بمستوطنين من شتى بقاع المعمورة. بعبارة أخرى، لقد غيّبت القيادة المهيمنة في م.ت.ف.، عن وعي وبذريعة “فنْ الممكن”، المشروع الصهيوني الذي لا يهدف إلى استيطان فلسطين وحسب، بل يستهدف الوطن العربي برمته بغية الهيمنة على شعوبه ومقدراتها، وفي الأعمق، تهديد وجودها البشري والحضاري؛

– وهذا يعني أن دخول التسوية السياسية أو المفاوضات يعني التفاوض مع الصهيونية على مشروعها.

– عدم الاتعاظ وأخذ العبر من تجارب شعبنا وكافة شعوب العالم، وهي أن العدو لا يتنازل إلاّ عندما يُهزم وتختل موازين القوى ضده؛

– بالإضافة إلى أن مسيرة السعي نحو الدولة جاءت بكلفة باهظة، فإنها كانت نتيجةً لدونية مفجعة ومُذلّة تجاه العدو الصهيوني والغرب الرأسمالي الإمبريالي تجلى في مسلسل من التنازلات في محاولة استجدائهما واسترضائهما؛

– وعليه، لم يكن مسلسل “المفاوضات” سوى تجليات لهذا الاستجداء. هنا يكون حديثنا عن استجداء مدخلٍ اياً كان إلى الإدارة الأميركية في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، ولاحقاً مؤتمر مدريد (أكتوبر1991) وجولاته العشر، ثم إعلان المبادئ المعروف باتفاقية أوسلو (سبتمبر 1993)، وربع قرن من المفاوضات، فيما يستمر تهويد الضفة الغربية واستيطانها، وقضم ما تبقي للفلسطيني من أرضٍ وماءٍ وهواء؛

– هكذا، وبالمحصلة، دمر الاستدوال مشروع التحرير ليحل محلة مشروع الدولة، والذي هو، بعبارة أخرى،تحديدا تجسيد لمشروع شريحة البرجوازية الفلسطينية التي تشكلت كوكيل للراسمالية الامبريالية الغربية وهي تعمل على انشاء كيان اقتصادي سياسي يحمي وينمي مصالحها ولو كان ذلك عل حساب التخلي عن حق شعبنا في ترابه الوطني الكامل وسيادته.

انحراف الخطاب الفلسطيني

كضرورة لانحراف المشروع

‏لقد تطلب السعي نحو السلطة أو الدولة تغييرَ الخطاب أي صياغة خطاب يقدم الذريعة للانتقال من المقاومة المسلحة ومشروع التحرير الوطني إلى تبني مشروع السلطة/الدولة. وكان من بين أهم أدوات تغيير الخطاب أو صياغة الخطاب الجديد تزييف الوعي الشعبي وحشوه بأكاذيب وأوهام حتى يقبل ‏بالهزيمة والخنوع.

‏وإذا كان من المألوف في أشكال الفعل السياسي، أن يبدأ الخطاب السياسي بتحديد منطلقاته، فإن الخطاب السياسي الفلسطيني الراهن يمثل، بلا ريب، استثناءً. إذ أن خطابنا كان واضحاً على مدى عقود من القرن الفائت إلى أن ضربت به أشكال الفعل السياسي الانهزامي المليئ بالأكاذيب والإفتراءات خلال العقود الخمسة الأخيرة وبشكل أكثر تحديداً ‏منذ أوائل سبعينيات القرن المنصرم.

لذا فإن المهمة الملحة تكمن في تفنيد الأكاذيب والأوهام وتعرية ما حلّ بالوعي الشعبي الفلسطيني والعربي من تزييف وتخريب وتدمير، وهو ما سنعود إليه لاحقاً.

Editor Editor

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *