كرايس الجيلالي: فلسفة التسول في مجتمع مفتوح ومعولم
الإنتشار العربي :كرايس الجيلالي
يقول زيجمونت باومن في كتابه الأخلاق في عصر الحداثة السائلة: “من البديهي أن يبادر المحليون من أهل المسكن والذين يعدون شرعيين فيه إلى طرد القادمين الجدد الخارجين عن الجماعة بعيدا ويدمرونهم لو رفضوا الهرب” تشير هذه المقولة إلى العصر الذي نعيش فيه، وهو عصر أصبح فيه الإختلاط يزعجنا جميعا، فحتى المجتمعات الغربية شديدة الإنفتاح على الأخر، قد أصبحت تفكر في وصد أبوابها في وجه كل وافد وجديد، بعد أن أصبحت التأثيرات الثقافية وإمكانية تغيير الهوية تحت تأثير الوافد الثقافي أمرا شديد الورود، فكل ما نخشها اليوم هو تنوع الأديان والثقافات والهويات، بدل الأعراق والأجناس التي طالما قسم البشر أنفسهم على أساسها، لكن اليوم أصبح التقسيم ثقافيا، وأصبحت القرابة هوياتية، فكل من يختلف عني هو في حقيقة الأمر يشكل خطرا علي، فالمخاوف على حد تعبير باومن في كتابه الأزمنة السائلة هي التي تدفعنا إلى القيام بفعل دفاعي لأن الخوف قد إستقر بداخلنا، كما أن الفعل الدفاعي بالمختصر الشديد هو رفض الأخر وعدم التعاطف معه، لأنه يهدد وجودنا، وربما قد يشاركنا لقمة العيش الشحيح.
هذا التمهيد يجرنا إلى الموضوع الذي أردت الحديث فيه، وهو على علاقة بوطيدة بمجتمع المخاطر العالمي، حيث أصبح الإنفتاح والإختلاط يهدد المجتمعات المحلية على مختلف الأصعدة، وباتت حتى الفئات الإجتماعية البسيطة تستشعر هذا الخطر، ولديها مخاوفها التي أصبحت تعبر عنها بكل حرية، وتعلن بصوت مرتفع رفضها لملامح المجتمع المفتوح، حيث إسترقت السمع لسيدتان أمام باب المسجد، مهنتهما التسول، لكن حسب حوراهما قد تغيرت هذه المهنة التي كانت تدر عليمها الكثير من المال، بعد أن دخل متغير جديد ووافد، وهو المتسول الأجنبي الذي قاسمهما مصدر عيشهما، وهنا راحت السيدتان تبديان امتعاضهما مما ألت إليه الأمور بسبب العولمة وبسبب المجتمع المفتوح، وهذا ما سأتطرق إليه في هذه الأسطر، بعد أن إستفزني الموضوع وفرض عليا أن أكتب حوله.
فبينما أنا أهم بدخول أحد مساجد مدينة تيسمسيلت لأداء صلاة الظهر وإذ بمهاجر إفريقي يقف عند باب المسجد متسولا برفقته إبنته الصغيرة، التي كانت تجلس على عتبة باب المسجد، وهي تثير جلبة وضوضاء بحركتها الطفولية، وقد كانت تلك الطفلة صغيرة وجميلة، وتجعل من كل يدخل المسجد أو يخرج منه يقدم لها بعض الفكة مبتسما في وجهها ووجه أبيها، المهم دخلت المسجد وأديت صلاي ثم هممت بالخروج لأجد المشهد قد تغر تماما، لقد غادر ذلك المهاجر الأفريقي مدخل المسجد مخليا المكان لمتسولتين محليتين، كانتا تجلسان بباب المسجد متبادلتان أطراف الحديث في نوعا من الغيظ والغضب، فظروف التسول لم تعد على ما يرام في هذا العصر المفتوح، حيث عبرتا عن رفضهما للمنافسة الغير المحلية والشرسة من طرف المهاجرين الأفارقة، وكيف أصبحوا يستحوذون على هيبات المتصدقين وتبرعاتهم، بينما أصبح المتسول المحلي خارج الإهتمام، وهذا ما أزعج السيدتان، حيث عبرتنا عن رفضهما المطلق لهذا الواقع المر.
فالرفض كان موجها بالأساس نحو المحسنين الذين أصح أمر المتسول المحلي لا يهمهم، رغم أنه إبن البلد وحقه عليهم أولى من حق الغريب، لكن للأسف فقد ذكرت إحداهن أن المبالغ التي يجمعها المتسولون الأجانب تفوق أحيانا العشرة ألاف دج في اليوم والواحد، وأردفت مرة جمع أحد المتسولين الأفارقة أكثر من 4000دج من الفكة فقط، ناهيك عن العملات الورقية، وهو مبلغ مهول لا يتحصل عليه حتى موظف حكومي سامي، بينما لا ينال المتسول المحلي شيئا. ثم قالت الأخرى من المفروض أن لا تقدم النقود لهؤلاء الغرباء فلا أحد يعرف مصير تلك الأموال، فالواجب أن يحصلوا على مساعدات عينية أطعمة ألبسة أفرشة، فهذا ما هم بحاجة إليه، كنت أستمع إليها وقد تعمدت أن أطيل عملية إنتعال حذائي، حتى أعرف قراءتهما للتحولات التي مست التسول في المجتمع المفتوح، فردت عليها الأخرى نعم لو طال الأمر هكذا لأستعمرنا هؤلاء الغرباء، فهم يتكاثرن ويجمعون الأموال ولا أحد يعرف مصيرها أو وجهتها، خطاب راقي لسيدات متسولات، لكنهن يعرفنا التهديدات الامنية اللاتماثلية ويعرفن خطورة الهجرة غير الشرعية كظاهرة عبر قومية، وما ينجمع عنها من تهريب الأموال وتبييضها، وتوظيفها في عمليات إرهابية وغيرها، وهما غير مرتاحتين لتنامي ظاهرة الغرباء حتى وإن كانوا متسولين.
وقد ردت صديقتها نعم الكثير من الدول حدث لها هكذا، وإستعمروها بعد أن كانوا يتسولون فيها، قضايا ومواضيع تبدوا غاية في الجدية وهي فعلا تقلق الحكومات، وتثير مخاوف المجتمع الدولي، وقد أقللت حتى المشتغلين في سوق التسول، فقد أزعجهم تعولم هذا السوق وإقصائه للمتسول المحلي، وهذا ما جعلني أدرك أنه حتى للتسول منطق، وللمتسولين فلسفة تدرك خطورة المجتمع المفتوح وخطورة التدفقات العبر قومية، وكيف غيرت ملامح التسول المحلي، وأثرت على المتسول المحلي، وحدة من مداخيله، بعد أن تعولم سوق التسول ودخله عنصر جديد، أصبح يستحوذ على جل مداخيل هذا النشاط المبرح والمريح، لكنه أصبح معقدا اليوم، ويشكل تحديا بالنسبة للمتسول المحلي، بعد أن إنفتح على العالم وأصبح متعددة الجنسيات، وتحكمه منافسة شرسة بين المحلي والعالمي، فتصرف هاتين السيدتين يشير إلى أن الإنفتاح قد أصبح يقلق الجميع، بداية من صانع القرار، وصولا متسول بسيط قد جاء من وراء أعالي البحار، من يشاركه لقمة عيشه لمغموسة بالدم.
كاتب جزائري