د. نادية هناوي: النَّص التفكري
الإنتشار العربي :د. نادية هناوي
للنصوص الابداعية أشكال تتفاوت بتفاوت النشاط العقلي فيها وتتميز بحسب ما فيها من جدلية التضادات التي تتنوع بتنوع الخاصية التفكرية داخلها كأن تكون سياسية او اجتماعية أو اقتصادية، لكن التعريف النمطي والشامل للنص التفكري أنه نص انتاجي إبداعي في شكله الظاهري لكنه كُتب مخصوصاً بعد تجربة، كان قد تَفَكَرَ فيها المؤلف بنفسه وانغلق عليها بعد أن عايشها واقعا هو الخيال حتى توازى لديه العالم والنص وصفيا ودراميا. وبهذا التوازي تتجسر الصلة بين المعرفة العقلية وادراك الواقع كأن تتداخل اللغة بالعقل وعلم النفس بالخطاب وبما يسمح للذات بدراسة شفوية لتجربتها الشخصية وطرائقها المتعددة او التخصصية في عملية التفكر والتفكير.
والمتولد نصوص تفكرية يكون مجال تحليلها ودراستها مرتبط بـ( علم السرد المعرفي أي الادراكي) وهذا العلم بحسب ديفيد هيرمان ذو صلة بثورتين معرفيتين: الاولى كانت رد فعل على ما عرف في أوائل القرن العشرين من كشوفات سايكولوجية تتعلق بالسلوك والاستبطان عند سكنر والعقل الظاهري عند هوسرل والتي تحولت في خمسينيات القرن نفسه إلى دراسة الادراك ومعها ظهرت علوم الكومبيوتر وعرفت نظرية قواعد اللغة التوليدية التحويلية لجومسكي. أما الثورة المعرفية الثانية فكانت في اواخر الثمانينيات التي فيها وُضع العقل في سياقات العمل المادي من دون التقليل من النشاط العقلي والسلوكي وصار الاهتمام منصبا على العمليات التي يقوم بها العقل بوصفه برنامجا حاسوبيا يعمل بطاقة الدماغ المادية وطبيعة معالجته المعلومات والنشاط الإدراكي مع ظهور تخصصات جديدة في علوم الكومبيوتر وعلم النفس المعرفي واللغويات والفيزيولوجيات العصبية ونظريات الذكاء المتعدد.
وبحسب علم السرد المعرفي تكون إدراكية (النص التفكري) متجسدة في ازدواجية الكلام/ الكتابة حيث الباث متفكر في تجربته نصياً أياً كانت هذه التجربة شخصية أو مجتمعية. وهذا التفكير ليس كتابة يراد منا أن نبحث في علاقاتها استنادا إلى قارئ يشارك الباث نصه؛ إنما هو كلام ذو دلالات انتفت زمنيتها اللحظية بقصدية التفكير فيها وليس قصدية المشاركة القرائية في اتمامها.
ومعلوم أن احتمالية المعنى تظل حاصلة في( النص الأدبي) أيا كان قالبه التجنيسي؛ بيد أنها غير ممكنة في( النص التفكري) أولا لأن التفكير أمر مدرك ذاتيا من قبل المؤلف وليس تشاركيا بين المؤلف وقارئه لغياب القارئ من ذهنه، وثانيا أن التفكير يخالف الادب بعامة والتسريد بخاصة إذ لا أنساق تقولبه ولا قواعد تحده، ولكن هناك موجهات تسيره ليكون ايدولوجيا أو لغويا او دينيا أو تاريخيا..الخ.
وقد يخرق النص التفكري هذه الموجهات فيغدو غرائبيا أو اسطوريا كما هو الحال في نصوص المتصوفة وكتابات الغنوصية التي فيها الكاتب يفكر لنفسه، والعالم الواقعي بالنسبة إليه غير موجود فيزيقيا، إدراكا منه أن لا هوة بينه وبين نفسه بوصفه شخصا في شخصين أحدهما مجسد والآخر حلولي. وقد يُرى في مثل هذه النصوص الموجهة الى الشخص نفسه أنها أدبية على أساس أن استعادة اللحظة تعني تسريد الحياة نصيا في قالب هو أما رسالة أو مذكرة أو سيرة. ومن ذلك مثلا مذكرات كافكا التي كتبها ولم يكن في نيته أن يعطي ما يكتبه لغيره. فجوابنا أن النص يكون أدبيا متى ما كان المؤلف نفسه عارفا أنساق ما يكتب ومتمرسا في سياقات الكتابة وأعراف القراءة غير طارئ ولا مستجد. وهو ما يحقق في النص الوظيفة الجمالية على وفق الخطاطة الجاكوبسونية سواء كان النص منشورا أو ما زال مخطوطا، يقول ميشيل بوتور: “في أغلب الاحيان تكون الكتابات الحميمة موجهة إلى كتّابها في الدرجة الأولى وهي مكتوبة على أمل نشرها عاجلا أم أجلا” (بحوث في الرواية الجديدة، ص147).
أما إذا كان النص مكتوبا على نية أن يقوم المؤلف بخرقه فيما بعد أو أنه يكتبه ثم يرفع اسمه منه فيتركه عائما أو يكتبه بخط غير واضح فلا يستطيع قراءته فإن شرعية التجنيس ستنتفى عنه كنص. ومن أمثلة الكتابات التي بلا شرعية تجنيسية الاعلانات واللافتات والعبارات الجاهزة لمناسبات بعينها والمخاطبات الرسمية والعرفية وما شاكلها فهي جميعها كليشيهات عامة. والتناص معها او تحليلها يظل في حدود قارئها وما لديه من ادوات وما يمتلكه من امكانيات تكشف له سيميائية ما فيها من دوال ومدلولات أو ما يكمن في صياغتها من خطابية او ما تشتمل عليه الخطوط والاعمدة والمنحنيات من هندسية. ومن ثم لا سبيل إلى تصنيفها نصوصاً أدبية أو معرفية.
أن تكتب نصاً تجمع فيه الزمن بأبعاده المختلفة في لحظة هي الزمن كله، فذلك يعني أنك تعي أن الحياة هي السرد حركة وإبطاء، امتدادا وتعاقبا، اختزالا واستفاضة. وما من نص يمسك باللحظة الحياتية بصورة قصدية وعلى نية الكتابة السردية إلا له قالب القصة القصيرة الذي ميزته التكثيف والاختزال.. لكن ما بالنا بنص يمسك باللحظة سردياً من دون قصدية الكتابة السردية وإنما بقصدية ميتافيزيقية هي أشبه بحلم يقظة أو طيف خيال أو رؤيا منام، لا يكون بعده سوى اللااحساس بالزمن والعيش في هلامية زمانية لعلها الأبدية ؟!.
من المؤكد أن ليس كل نص يُكتب يستوجب منا أن نعده أدبيا ونبحث له عن قالب اجناسي معين، محاولين أن نصنّفه في خانة من خانات التجنيس السردي أو الشعري، كون الأمر يخضع لمواضعات فنية وموضوعية. وفي مقدمتها النص نفسه ومدى قربه أو بعده فنيا من هذا القالب أو ذاك، ومنها المؤلف وقصدية حضوره في النص ومنها القارئ وطبيعة الوظيفة التي عليه تأديتها.
وإذا وضعنا في بالنا عناصر ثلاثة أخرى بها تكتمل عملية التوصيل الابلاغي وأعني بها السنن التي هي اعتبارات مشتركة بين المؤلف والقارئ ثم قناة التوصيل التي هي وسيلة بها يتلاقى النص والقارئ ثم السياق الذي هو مرجعية المؤلف في النص؛ فإن أي فقدان لواحد من هذه العناصر سيكون فيصلا في انتفاء الأدبية عن النص وعدم مشروعية أن نفكر فيه نصا أدبيا، لأنه في الحقيقة نص فاقد مقومات التجنيس كلا أو بعضا أي غير مجنس.والنص التفكري نص أمسك المؤلف بلحظته التي انتهت زمنيتها ليكتب نصه في درجة الصفر الزمني في تجربة التفكير حيث التلفيظ والإخبار نوعان من أنواع التلاعب بالزمن، يصفهما بول ريكور بـ( المتعالية المحايثة في النص) الزمان والسرد، ج2،ص172 وبهما يكون الامساك بالزمن في التعبير عن تجربة ذاتية، هو نفسه التقاطع واللاتعاقد بين عالم النص وعالم القارئ فلا وجهة نظر ولا صوت سردي يراد منهما إعادة تصور هذين العالمين، لأن المنظور غامض والصوت صامت والذاكرة تتداعى داخل الزمن وتتحرك خارجه ممتدة إلى ما هو أبدي دائم.
ولأن النص المؤلف هو نص اللحظة المعيشة يكون مفكِرة صاحبه الذي تفكر في تجربته واستعادها لحظةً زمنيةً فيها نقطة بؤرية يتقاطع داخلها الواقع والخيال. وهذه الاستعادية التقاطعية هي انطباع برغسوني مفقود على طريق خارج زمني أبدي، يجعل النص متفكَرا لا في تجنيسه أدبيا وانما في استعادته كتابيا وفيه يكون المؤلف وجها لوجه مع نفسه في نصه، وقد تداخل لديه المنطقي بالحلمي والوقائعي بالغرائبي في عملية بوح ذاتي خفي هي أشبه ما تكون بالقصة الإخبارية أو الإخبار القصصي، ولعله يقترب مما سماه ديفيد هيرمان (storytelling).