محمد علي (1769 – 1849)

 محمد علي (1769 – 1849)

موفق محادين

د.موفق محادين

كما كان جمال عبدالناصر، عنوان مشروع الأمة وطرق باب التاريخ والعالم في الأزمنة الحديثة، فإن محمد علي، في مصر أيضاً، شكّل أول مشروع للأمة في القرن التاسع عشر، آخذين بعين الاعتبار اختلاف الظروف والتيارات ومرجعياتها.
صحيح أن محمد علي، بدأ حياته ضابطاً ألبانياً في جيش الإمبراطوية العثمانية الإقطاعية، وصار حاكماً لمصر، في تموز 1805، بتوافق دولي (تركي، فرنسي، بريطاني) وتوافق محلي مع القوى الوطنية المصرية بزعامة عمر مكرم نقيب الأشراف. إلا أن مشروعه عبّر موضوعياً عن نزعات استقلالية حقيقية بآفاق لتوحيد الأمة حول القوس المصري – الشامي، كما سنرى.
ترافق صعود محمد علي مع كاريزما القائد التاريخي كما مع بدايات تشكل برجوازية وطنية مصرية تفكر في سوق قومي خاص أكبر من مصر، إذ نعرف أن مصر شهدت آنذاك توسعاً في زراعة وتجارة القطن (يساوي النفط اليوم)، وفي بدايات رسملة الزراعة وغيرها. وكان للسان سيمونيين (جماعة سان سيمون أو سمعون الفرنسي) المهووسين بالهوى المصري والتاريخ الحضاري الفرعوني، دور كبير في إسناد وتعميق مشروع محمد علي في بناء دولة حديثة على غرار دولة وستفاليا الأوروبية، فكانت القناطر الخيرية، وإصلاح التعليم، وتحديث الدستور، وبناء الترسانة والكلية البحرية، التي خرّجت أعداد كبيرة من المهندسين والفنيين، وكذلك مدرسة المدفعية، والبعثات التعليمية إلى فرنسا، وأشهرها بعثة الشيخ رفاعة الطهطاوي.
كما انتبه محمد علي إلى دور الجيش في الدولة العميقة لمصر منذ أيام رمسيس الثاني، وراح يؤسس جيشاً حديثاً خليطاً من المحترفين وخدمة العلم، مما وضعه في صدام مع المجاميع التي كان يستأجرها المماليك، ثم مع المماليك أنفسهم في مذبحة القلعة الشهيرة (1811)، التي كانت سابقة على تصفيات مماثلة في بلدان أخرى، مثل تصفية السلطان العثماني محمود الثاني للإنكشارية في ميدان الخيل، وتصفية ملوك الميجي في اليابان للساموراي.
كل ذلك، جعل من مصر واحدة من أقوى دول وجيوش وبحرية ذلك العصر، وعندما لاحظ الاستعمار البريطاني ضعف السلطة الاقتصادية العثمانية، وقرر وراثتها بدعم الحركة الوهابية المتحالفة مع آل سعود، طلب السلطان العثماني من محمد علي التصدي لهذه الحركة، حيث نجحت الجيوش المصرية بعدة حملات استمرت بين الأعوام (1811 – 1818) في محاصرة الوهابية وحليفها السعودي في قلب نجد، وتصفيتها وقطع رؤوس قادتها وإرسالها في سلال إلى السلطان العثماني كهدية من مصر وجيوشها وحاكمها محمد علي.
وكررت السلطة العثمانية المتهالكة والمتداعية طلبها من محمد علي والجيوش المصرية إنقاذها مجدداً بعد الثورة اليونانية (1822) المدعومة، كما الوهابية، من الاستعمار الأوروبي وخاصة البريطاني، والتي كادت الاقتراب من اسطنبول نفسها.
وكما في حملة محمد علي وجيوشه ضد نجد والوهابية، تمكن الأسطول المصري من وقف امتدادات الثورة اليونانية وهزيمتها ودخول أثينا نفسها قبل أن تتكالب أساطيل الاستعمار الأوروبي عليه وتجبره على الانسحاب (1827).
مع ازدياد الأطماع البريطانية في (تركة الرجل المريض) من مستعمراته الأوروبية والعربية، واستباقاً لسقوط الشرق العربي والإسلامي تحت سيطرة الاستعمار البريطاني، وتجاوباً مع النداء الموضوعي التاريخي لتوحيد الأمة حول القوس المصري – السوري، دفع محمد علي بالجيوش المصرية إلى بلاد الشام، مقدمة لإعلان أول دولة عربية مركزية ووجد الفرصة التاريخية سانحة لفتح اسطنبول نفسها، ونقل المركز السياسي والديني إلى القاهرة.
وهكذا كان، تساقطت الجيوش العثمانية أمام الجيوش المصرية، وخسر العثمانيون عشرات الآلاف من القتلى في كل المعارك مع المصريين والسوريين الذي التحقوا بهم وخاصة في معارك قونيه (1835) ونصيب (1839).
وتمكنت الجويش المصرية من ضرب حصار على اسطنبول نفسها، بيد أن قوى الاستعمار الأوروبي، وروسيا القيصرية، التي لجأ إليها السلطان العثماني، أدركت خطر محمد علي على مشروعها الاستعماري، وأعلنت تحالفاً فيما بينها في مؤتمر لندن (1840)، الذي أشرف عليه وموله اليهودي، روتشيلد، الذي قام أيضاً بتمويل صندوق خاص (يذكّر بصناديق الثورات الملونة الحالية ومهندسها اليهودي جورج سوروس) لإشعال تمردات قبائلية وجهوية بذريعة (طرد الاستعمار المصري).
ويشار هنا إلى أنه مقابل بعض الأخطاء المصرية في الشرق وبضمنها أساليب التجنيد الإجباري، إلا أن المرحلة المصرية ترافقت مع إصلاحات كبيرة في الإدارة والتعليم والقوانين المدنية ونظام الضرائب البديل لنظام النهب والجباية العثماني.
بالمحصلة، وكما كانت وحدة مصر وبلاد الشام خطراً على الغزاة الأجانب، شكّل مشروع محمد علي خطراً أكبر على هؤلاء الغزاة، بل إن تأسيس الكيان الصهيوني الاستيطاني الإجرامي في فلسطين العربية، جاء بحسب مذكرة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، كامبل بنرمان، لإقامة بافر ستيت (منطقة عازلة) بين مصر وبلاد الشام تمنع العرب من التفكير مجدداً على طريقة محمد علي، وهو المشروع الذي كرره عبدالناصر مع سوريا (1958) وتعرض لما تعرض له مشروع محمد علي.

Editor Editor

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *