بعد اغتيال الشهيد عبد الله رمضان.. حتّى متَى تصمت مِصر قيادةً وجيشًا على هذه الاعتِداءات والمجازر الإسرائيليّة؟
بد الباري عطوان
ترتكب السّلطات المِصريّة خطيئةً كُبرى باستِمرارها في الصّمت و”التّعتيم” على العُدوان الإسرائيليّ الذي استهدف أمس وحدة من جيشها في معبر رفح، ممّا أدّى إلى استِشهاد الجندي المِصري البطل عبد الله رمضان (22 عامًا)، فالبلاد تعيشُ حالةً من الغضب غير مسبوقة انعكست أحد جوانبها في مراسم تشييع الشّهيد اليوم بمُشاركة الآلاف فيها، ردّدوا شِعارات داعمة للمُقاومة في قطاع غزة، وكبّروا “الله أكبر”، “ولا إله إلّا الله الشّهيد حبيب الله”، هي هتافات تُذكّرنا ببُطولاتِ حرب أكتوبر، وصُمود أهالي مُدُن القناة أثناء حرب الاستِنزاف المجيدة، وقبلها حرب اللا نعرف لماذا مارَسَ ويُمارس الإعلام المِصري حالةً من التّعتيم على هذا العمل البُطوليّ الذي نفّذه الشّهيد عبد الله رمضان، ولا يحتفل بشهادته، ولا نفهم أن يأتي بيان المُتحدّث العسكريّ في سطرين فقط، وهو الذي رَفَعَ رأس مِصر عاليًا عندما تصدّى لوحداتٍ عسكريّةٍ إسرائيليّة حاولت تدنيس واقتِحام أرضه، وانتهاك سيادة بلاده وحُرمة أرضها الطّاهرة في معبر رفح، ومحور صلاح الدين. ***
وما يُؤلمنا أكثر، كمُحبّين لمِصر، أن يتحدّث الإعلام العبري عن بُطولات هذا الشّاب الذي وجّه بُندقيّته إلى القوّات الإسرائيليّة المُعتدية، وأصاب العديد من رِجالها، بينما ما زالت مِصر الرسميّة، وحتّى كتابة هذه السّطور، تلتزم الصّمت المُطلق، وتقول إنها تُواصل التّحقيقات في “الحادث”، ولم تنطق باسم الجندي الشّهيد، وكأنّه ارتكب جريمة، ولم يستشهد دِفاعًا عن كرامة بلده وإرث شعبه الوطنيّ الحضاريّ الذي يمتدّ لأكثر من ثمانية آلاف عام هزم فيها كُلّ الغُزاة والمُعتَدين. فإذا كان الجيش المِصري العظيم لا يتحرّك بقوّةٍ هذه الأيّام للدّفاع عن الانتِهاكِ الإسرائيليّ الاستفزازيّ المُهين لتُرابه الوطنيّ باحتِلاله لمحور صلاح الدين (محور فيلادلفيا)، ويفتح معبر رفح بالقُوّة لإيصال المُساعدات الإنسانيّة لمِليونيّ مُحاصر ومُجَوّع في القطاع، ويتصدّى لحرب الإبادة والتّطهير العِرقيّ التي يرتكبها الصّهاينة ضدّ أشقّائه فمتَى سيتدخّل إذن؟ نحنُ لسنا من دُعاةِ الحُروب، ولا نُريد لمِصر وشعبها إلّا الأمن والاستِقرار والرّخاء، ولكنّ الكيْل قد طفَح، والاعتِداءات تضخّمت، والدّول لا تختار أقدارها، ولا تتهرّب من مسؤوليّة القيادة، ولا تتردّد في خوضِ الحُروب إذا ما كُتبت عليها، ومِصر كانت دائمًا درع الأُمّة والعقيدة، ورافعة راية الدّفاع عنهما. نَشعُرُ بالمرارةِ عندما نستمع إلى المتحدّث العسكريّ المِصري يقول إنّ بلاده تُجري تحقيقًا بحادثِ اغتيال الجندي المِصري الشّهيد في معبر رفح، فالأمر لا يحتاج إلى تحقيقٍ، فالحقائق مكتوبةٌ على الحائط، وإنّما تحتاج إلى ردٍّ فوريٍّ دُونَ تردّد “يُؤدِّبُ” القوّات الإسرائيليّة، ويثأر لدِماءِ الشّهيد، وكُلّ الشّهداء الآخرين، فهذا الرّد الباهت هو الذي يُشجّع هؤلاء المُجرمين على مُواصلة اعتِداءاتهم، واحتِلالهم للأراضي المِصريّة، وانتهاك المُعاهدات المُوقّعة لوقفِ إطلاق النّار والتّطبيع معهم. قطاع غزة الذي يُقاوم أبناؤه العُدوان الإسرائيلي بشجاعةٍ وبُطولةٍ ويُلحقون به خسائر وهزائم مُهينة مُذلّة، ويُقدّمون أكثر من 120 ألف شهيد وجريح، يُشكّل القطاع خطّ الدّفاع الأوّل للأمنِ القوميّ المِصري، مثلما فعل دائمًا في جميع حقبات التّاريخ قبل الإسلام وبعده، ولهذا يجب أن لا يُترَك لكي يتولّى هذه المسؤوليّة الكُبرى لوحده، وهو الذي لا يملك المدافع والصّواريخ الباليستيّة وطائرات “إف 16″ و”إف 15” الأمريكية الصُّنع والمُسيّرات، وجيش يزيد تِعداده عن ضِعف سُكّان القطاع. الشّهيد عبد الله رمضان ابن مصر البار يلتحق في جنّات الخُلد بالشّهيد محمد خاطر ومحمد صلاح اللّذين لم يتحمّلا استفزازات المُجنّدات والمُجنّدين الصّهاينة وعربدتهم في سيناء والعُمُق الفِلسطيني المُحتل، وغَلَتْ دِماء الكرامة في عُروقهم وردّوا على هذه الاستِفزازات بالطّريقة التي يستحقّون.
***
القيادة المِصريّة بشقّيها، السياسيّ والعسكريّ، يجب أنْ تتحرّك فورًا وبشَكلٍ حاسم لوضعِ حدٍّ لهذه الإهانات المِصريّة بالطّريقة التي لا يفهم غيرها هذا العدوّ المُجرم، أي لُغة القوّة تمامًا مثلما فعلت في حرب السّويس الأولى (1956)، والثانية (حرب الاستنزاف) وحرب السّادس من أكتوبر التي دمّرت حائط برليف المجيدة، فما الذي يُمكن أن تخسره مِصر التي جوّعوها وشعبها وسرقوا مِياهها؟ ويكفي إطلاق قذيفة واحدة على هذا العدو المُتغطرس، كفيلة بإرسال أكثر من أربعة ملايين إسرائيلي إلى الملاجئ، أو التّزاحم في مطار اللّد (بن غوريون) بحثًا عن ملاذاتٍ آمنة في أوروبا من حيث أتُوا، تمامًا مثلما حصل في مطار كابول، فهذه مِصر ولا نقول أكثر من ذلك. لا نعرف ماذا تنتظر القيادة المِصريّة، فإذا كان قطاع غزة الذي لا تزيد مِساحته عن 150 ميلًا مُربّعًا، ولا تُوجد فيه غابات ولا جبال، ولا يزيد عدد مُقاوميه عن 25 ألفًا، حسب الإحصاءات الإسرائيليّة، استطاع أن يَهزِم الجيش الذي لا يُهزَم، ويَصمِد أكثر من ثمانية أشهر، ويُدمّر ثلاثة آلاف دبّابة، وجرّافة، وناقلة جُنود، فمِنْ ماذا تخاف مِصر العُظمى الرّائدة القائدة، وجيشها البطل صاحب التّاريخ الحافِل بالانتِصارات؟ أكتب هذا المقال بعاطفيّة، فمن علّمني الكتابة وزرع في دمّي هذه المواقف، هي مِصر وقِياداتها التي أحيَتْ فينا رُوح العُروبة والكرامة، وجعلت من فِلسطين ورفع الظُّلم عن شعبها بُوصلتها، وقمّة أولويّاتها، وكُلّنا ثقة أنها ستنتفض وتستعيد الصّدارة.. والأيّام بيننا..