مئات القتلى في إقليم دارفور.. لماذا يستمرّ العنف القبلي؟

دارفور
الإنتشار العربي: على الرغم من توقف الحرب الضارية في دارفور غربي السودان بفضل اتفاقية سلام وقعت في جوبا العام الماضي، لا تزال لعنة النزاعات القائمة على أساس عرقي قبلي تلاحق الإقليم، في لغط مثير للقلق والحيرة وسط تساؤلات ملحة بشأن دواعي استمرار نزف الدم في هذه المنطقة.
وحصدت أحداث العنف القبلي المسلح في إقليم دارفور غربي السودان، في 6 أشهر ما بين 500 و600 قتيل والآف الجرحى، إضافة إلى نزوح نحو مئة ألف أسرة، وذلك وفق إحصاء حصلت عليه الميادين نت من المنسقيّة العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين في السودان.
ويعاني إقليم دارفور اضطرابات أمنية وصراعات قبلية تغذّيها المليشيات ذات التسليح العالي، ما يزيد عدد الضحايا، فيما تُلاحق قوات الدعم السريع التي يقودها نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي، الجنرال محمد حمدان دقلو الشهير، بـ”حميدتي” اتهامات بدعم هذه المليشيات المنفلتة.
محاولات للتهدئة
ومنذ أكثر من شهر ينزل حميدتي، في إقليم دارفور، في محاولة منه لمكافحة العنف القبلي الذي ما إن يتوقف حتى يتجدد على نحو أكثر دموية.
وخلال استقراره في الإقليم عقد حميدتي عدة اتفاقيات صلح لإنهاء صراعات قبلية عنيفة نشبت بين عدد من القبائل الأفريقية في ولاية غربي دارفور، منها “القمر، المساليت، المسيرية جبل”، ومجموعة القبائل العربية الرعوية.
ولكن الاتفاقيات الهشة التي عقدها حميدتي، بدأت بالتداعي بعد خروق متكررة من المليشيات المسلحة التابعة للقبائل العربية، حيث قتل الأسبوع الماضي 5 أفراد وأصيب 9 آخرون، في مكمن مسلح نصبته هذه المليشيات لفزع أهلي من قبيلة “القمر” في غربي دارفور الأسبوع الماضي.
ويشير خبراء سودانيون، إلى أن الصراع القبلي في دارفور لن يتوقف في ظل انتشار السلاح بيد المواطنين والمليشيات، كما أن هذا النزاع مرتبط بجذور تاريخية ذات علاقة بفرض النفوذ على الأراضي (الحواكير) وغيرها من القضايا المتصلة بتحقيق العدالة للضحايا السابقين وأسرهم، فمن دونها سيستمر نزف الدم في الإقليم الغربي.
وكانت قبيلة “القمر، والقبائل العربية” قد وقّعت اتفاقاً للصلح في أواخر يونيو/حزيران الماضي، بإشراف حميدتي، أنهى صراعاً دامياً بين الطرفين وقع في منطقة “دار مقطاع” بمحلية كُلبس بولاية غربي دارفور، خلّف 127 قتيلاً و117 جريحاً، بحسب مكتب الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة وقتذاك، ولكن يبقى هدوءاً موقّتاً من واقع التجارب السابقة.
تغيير معادلة الحكم
لا يرجّح المتحدث باسم المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين بدارفور، آدم رجال، أن تنتهي أحداث العنف القبلي في الإقليم قريباً ما لم تتغير معادلة الحكم في الخرطوم، ويذهب ما يسميه اللجنة الأمنية لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير التي تسيطر على السلطة في المركز حالياً.
وقال رجال في حديثه إلى الميادين نت إن الدولة السودانية هي التي سلّحت المليشيات المنفلتة في دارفور منذ عام 2003، وما زالت توفر لها الحماية حتى اليوم، وتمنع ملاحقتها جنائياً.
وأوضح أن أزمة دارفور ظلت مستمرة على مدى ثلاث مراحل حكم مرت على الدولة السودانية، أولاها مرحلة حكم الرئيس السابق عمر البشير التي شهدت بداية تسليح للمليشيات المنفلتة، ومرحلة الحكومة الانتقالية التي عجزت عن ملاحقة المجرمين المتورطين في جرائم دارفور وتقديمهم إلى العدالة، سواء أكانوا مطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية أو المحاكم الوطنية، ثم المرحلة الثالثة هي انقلاب قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021، ضد حكومة حمدوك المدنية، الذي تسبّب بتفاقم الانفلات الأمني في دارفور، وأعاد الأوضاع إلى ما كانت عليه في عهد البشير.
وبسبب الجرائم التي ارتكبتها هذه المليشيات في دارفور، تلاحق المحكمة الجنائية الدولية عدداً من قيادات النظام السابق، على رأسهم الرئيس المعزول عمر حسن البشير، ووزير دفاعه عبد الرحيم محمد حسين، وأحمد هارون، فيما سلمت حكومة حمدوك السابقة المتهم الرابع علي عبد الرحمن الشهير بـ”كوشيب” للمحكمة الدولية التي تحاكمه الآن في “لاهاي”.
وما زال “البشير وعبد الرحيم محمد حسين وأحمد هارون” رهن التوقيف في الخرطوم منذ سقوط نظامهم في 11 نيسان/أبريل 2019، بثورة انحاز إليها الجيش، وتطالب محكمة الجنايات الدولية بتسلمهم لمحاكمتهم بجرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور.
وشدّد آدم رجال على أن العنف في دارفور لن يتوقف ما لم تتحقق العدالة على الأرض، بحيث يجري تسليم المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية في “لاهاي” من دون قيد أو شرط، لمحاكمتهم على الجرائم التي ارتكبوها في الإقليم. بجانب هيكلة المؤسسات العدلية الوطنية وإصلاح القضاء السوداني، بحيث يكون مؤهّلاً لمحاكمة المطلوبين للعدالة الداخلية، موضحاً أن المؤسسات بالدولة قد مسّتها جميعاً يد الخراب والتمكين ما يتطلب تطهيرها بإعادة الهيكلة، وفتح الباب أمام الضحايا لانتزاع حقوقهم بالقانون من المجرمين المعروفين لديهم بالاسم، بحسب وصفه.
وقال رجال: “الآن بحسب تقديراتنا قُتل ما بين 500 و600 شخص، منذ مطلع عام 2022، ونزح أكثر من مئة ألف أسرة من قراهم ومناطقهم الأصلية، بسبب العنف القبلي وهجمات المليشيات المنفلتة”.
سقوط الانقلاب
ولكي يتوقف العنف في دارفور، يرى المتحدث باسم المنسقية العامة لمعسكرات النازحين واللاجئين، ضرورة سقوط الانقلاب العسكري بقيادة البرهان، وتأليف حكومة مدنية من كفاءات ثورية تقود المرحلة الانتقالية، وتطلق حواراً سودانياً – سودانياً، يشارك فيه الجميع، عداء النظام السابق وواجهاته، لتأسيس دولة الحرية والسلام والعدالة، التي تنهي العنف في دارفور.
وأكد رجال أن “الأجهزة الأمنية للانقلاب العسكري الحالي، هي التي تخلق العنف وتؤجّج الصراع في دارفور، موضحاً أن المليشيات المسلحة المنفلتة تنسّق مع الأجهزة الأمنية.”
وتتبع المليشيات المسلحة في دارفور للقبائل العربية التي ينحدر منها نائب رئيس مجلس السيادة السوداني، محمد حمدان حميدتي، وهي القاسم المشترك في أغلب النزاعات القبلية التي يشهدها الإقليم المضطرب، حيث تمتلك تسليحاً عالياً، ودائماً ما تُتّهم قوات الدعم السريع التي يقودها حميدتي بمساندة هذه المليشيات في قتالها القبائل الأخرى.
وأكد ناشطون من إقليم دارفور، لـلميادين نت أن زيارة حميدتي الحالية للإقليم لم تسهم في تهدئة الأوضاع الأمنية، وإنما على العكس خلَقت مزيداً من التوترات المكتومة، ويرجح أن تنفجر في أي لحظة.
وأشار الناشطون إلى أن حميدتي يعمل لعقد مصالحات فوقية تجمع قيادات الإدارات الأهلية للقبائل، ليتمكن من تحقيق أهداف خاصة مرتبطة بـ”استخراج الموارد المعدنية المتعددة والمتنوعة في شمال مدينة الجنينة وغربها وفي جبل مون وجبال كرينك”.
ويريد حميدتي مساومة أهل ضحايا المجازر التي ارتكبتها قوات الدعم السريع في ولاية غرب دارفور وإنهاء الاتهامات التي تقع تحت مسؤوليته بغرض الإفلات من العقاب وإظهار الوجه الحسن، بحسب الناشطين.
أسباب جذرية
يقول مدير مركز “سلام ميديا” عباس التجاني، المهتم بنشر ثقافة السلام، إن هنالك أسباباً جذرية للنزاعات القبلية في دارفور، منها عوامل تاريخية مرتبطة بنزاعات تقليدية، وأخرى مرتبطة بنشاط اقتصادي اجتماعي، للرعاة والمزارعين في الإقليم، إضافة إلى الصراع على الأرض والسلطة.
وأوضح التجاني في حديثه إلى الميادين نت أن لهذه العوامل طرقَ معالجة تقليدية ناجعة في إنهاء الخلافات، بيد أن الصراع السياسي على السلطة في البلاد، غطّى عليها، وجعل العنف المسلح في دارفور يتفاقم بصورة مدمرة.
ولم تفلح اتفاقية جوبا للسلام الموقعة في تشرين الأول/أكتوبر 2020، بين الحكومة السودانية وعدد من الحركات المسلحة بدارفور، في وضع حد لجذور العنف المسلح في الإقليم، على الرغم من إقرارها عدداً من الخطوات لمعالجة الأزمة.
ويقول عباس التجاني إن “اتفاق جوبا يصنّف اتفاقاً سلبياً من ناحية المناهج، لأنه نخبوي لم يخاطب جذور الأزمة ولم يشرك الفاعلين الحقيقين وأصحاب المصلحة على مستوى الأرض”.
وأشار إلى أن غياب الرؤية التنموية في معالجة الأزمات، جعل الخطاب الجهوي والعنصري يتصاعد حتى على مستوى قادة، ما أسهم في تأجيج الصراعات.
وتوسّعت في الآونة الأخيرة نشاطات المليشيات المسلحة التي تمارس جرائم القتل والاغتصاب والنهب، في دارفور، فيما تعجز السلطات الأمنية عن وضع حد لها، بالقبض على المتورطين وتقديمهم إلى العدالة.
وفي أواخر نيسان/أبريل الماضي، هاجمت المليشيات المسلحة، منطقة كرينك بولاية غربي دارفور، على مدى يومين متتاليين، ما أسفر عن مقتل 200 شخص واصابة مئات أخرى، بحسب لجنة أطباء السودان.
وفي إثر هذه المجزرة البشعة لوحت سلطنة (دار مساليت) بطلب تقرير المصير في حال استمرار هجمات الميليشيات على مواطنيها، وطلبت إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وضع المنطقة تحت الحماية الدولية وفق البند السابع لحماية المدنيين من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
وأشار المحلل السياسي المهتم بالشأن الدارفوري، أحمد حمدان، إلى تعقيدات الوضع في دارفور في أعقاب اتفاقية جوبا للسلام في السودان، التي قضت بتحالف أعداء الأمس، “قائد قوات الدعم السريع والحركات المسلحة” من أجل تعزيز مصالحهم المشتركة في السلطة، من دون الاهتمام بمصالح مواطني الإقليم في بسط الأمن والحد من العنف المسلح.
وقال في حديث إلى الميادين نت إن اهتمام أطراف اتفاق السلام انصبّ على تقاسم السلطة، فيما أهملت البنود المتعلقة بحياة السكان، مثل إنشاء قوة أمنية مشتركة من الجيش وقوات الحركات المسلحة، لحفظ الأمن وحماية المدنيين في إقليم دارفور.
ويرى حمدان أن الصراعات الخفية بين أطراف السلطة المركزية، الجيش من جهة والدعم السريع والحركات المسلحة من جهة أخرى، ينعكس سلباً على الأوضاع الأمنية في دارفور