مسيحيو غزة.. أعياد الميلاد بلا بهجة والعائلات فرقتها الحرب
لم يسأل الجندي الإسرائيلي المتحصّن داخل دبابته عن ديانة المسنّة الثمانينية إلهام فرح قبل أن يدهسها قبالة ملعب فلسطين في قلب غزة وهي تحاول لاهثة عبور الطريق أثناء نزوحها من المنطقة المحاصرة خلال الأشهر الأولى للحرب.
ولم يتحرّ الطيّار الإسرائيلي هوية الذين احتموا بجدران كنيسة بيرفيليوس حين أسقط قنابله على رؤوس المسيحيين فيها، فقتل أكثر من 18 شخصا منهم دفعة واحدة.
كما لم يتوقف القناص الإسرائيلي ليتأكد من ديانة الشابين اللذين تجوّلا في ساحة كنيسة دير لاتين قبل أن يرديهما رصاصه قتلين.
واستهدفت إسرائيل بجرائمها الغزيين ككتلة واحدة ودون تمييز، فكان القطاع كلّه في مرمى الفناء ذاته طوال عامين كاملين من الحرب، وقف فيها الغزيون كجسد واحد في مواجهة المصير نفسه، ورزحوا تحت دائرة الألم والقتل والحصار والتجويع، ولسان حالهم يقول إن البقاء أو الموت في قطاع غزة لا يمكن أن يكون إلا جماعيا.
وقضى أكثر من 60 مسيحيا في حرب الإبادة، إما باستهدافات مباشرة، وإما جراء الحصار والإغلاق حيث لا علاج ولا دواء، تماما كما حدث لآلاف المسلمين الذين ظلّوا في المدينة.
ومع ذلك، ظل الناس يتقاسمون ما تيسّر من ضروريات الحياة، حيث فتحت الكنائس أبوابها للنازحين المسلمين، وتشارك الجميع اللقمة والمأوى، وبرزت روح التعايش والتكافل في ذروة الجحيم، واستمرت المؤسسات الصحية والإغاثية المسيحية في تقديم خدماتها بلا تفرقة.
ووسط هذا الوجع الثقيل، حلّ عيد الميلاد هذا العام لـ516 مسيحيا في غزة حيث أقاموا احتفالات خجولة، بلا زينة ولا أضواء، “فالمدينة لا تزال بخرابها وفقدها حزينة”، كما يقولون.
ودخل بطريرك الأراضي المقدسة بيير باتيستا ليلة 21 ديسمبر/كانون الأول الجاري إلى غزة، ليعلن من قلبها عبر قدّاس احتفالي متواضع بدء الأعياد المسيحية، في محاولة صغيرة لانتزاع لحظة حياة من قلب مدينة لم تشف جروحها بعد.
وحضرت خلال صلاة القدّاس الأولى بحسب التقويم الغربي ليلة 25 ديسمبر/كانون الأول، والذي أقامته كنيسة دير لاتين (العائلة المقدّسة) شرق مدينة غزة، وهي الكنيسة المركزية التي تُقام فيها احتفالات المسيحيين الكاثوليك في القطاع.
وبدت الكنيسة كأنها مثقلة بذكريات عامين كاملين من الحزن، بلا زينة تقريبا ولا مظاهر احتفال، واقتصرت الطقوس على الشعائر الدينية الخالصة. وفي الداخل، مقاعد فارغة لشهداء قضوا داخل هذا المكان وخارجه، وكأن المصلين يحملون آلام الحزن والإبادة.
وبصوت خافت تُقرأ التراتيل، في وقت تتدلّى فيه على الجانبين زينة متواضعة لا تشبه أيّا من ملامح الاحتفال في سنوات السلم، وقدّاس بدا أقرب إلى صلاة صمود جماعي، ومحاولة أخيرة للحفاظ على الطقوس الدينية.
وفي الساحة الخارجية للكنيسة، جلس ديمتري بولس شارد الذهن، وحيدا على أحد المقاعد الخشبية، لا يبدو على ملامح وجهه انشراح العيد، اقتربت منه وسألته عن سبب جلوسه وحيدا في ذروة هذا الاكتظاظ، فأجاب “لقد أردتني الحرب وحيدا، عشتها بمفردي”. وأضاف بعد بسمة يملؤها الحزن “لقد دفعتُ أولادي للخروج من غزة خوفا عليهم وعلى أطفالهم، أما أنا فرفضت تركها”.
ورغم أنه مزدوج الجنسية وكان قادرا على الخروج من غزة متى شاء كما يقول، فإنه أفشل كل محاولات السفارة لإجلائه، فغزة غالية على قلبه ولم يطق تركها في هذه الظروف، رغم خسارته منزله المكون من عدة طبقات وعددا من أصدقائه.
لا أريد مغادرة غزة، وُلدت هنا ودرّست أجيالا في مدارس الأونروا، وجذور عائلتي ضاربة في هذه الأرض، وغزة بالنسبة لي كل شيء، قلبي وروحي وعيني.
وبينما يحدّق الرجل حوله كأن المكان كله يعكس شعوره بالعزلة، كانت نجلاء سابا (67 عاما) على الجهة المقابلة من الساحة تحاول كسر وحدتها بإجراء اتصال فيديو هاتفي مع عائلتها في مدينة بيت لحم في الضفة الغربية.
فرحة لم تستطع نجلاء أن تكون جزءا منها، فراحت عبر النافذة الصغيرة على شاشة الهاتف تشاركهم وتحتضنهم بعينيها، رغم الغصة الكبيرة التي ترافقها لعدم قدرتها على الوجود معهم جسديا، وسط شعور مؤلم بالفرقة والحرمان.
وتستعيد نجلاء تلك الأيام التي كانت فيها العائلات المسيحية في قطاع غزة تسافر بسهولة إلى بيت لحم لحضور احتفالات الأعياد، وتقول وكأنها تُقلّب ألبوم صور قديما، ولا تعرف إن كان بمقدورها عيش تفاصيله مرة أخرى، “أجمل الأعياد تلك التي قضيناها في بيت لحم، حيث صلاة القداس والأضواء والمواكب والزينات والاحتفالات واجتماع العائلة”.
لكنّها هذا العام في قطاع غزة وحدها بلا عائلة، حيث فرّقت الحرب عنها أبناءها وأهالي المدينة، وتردف “أشعر كل يوم بتشقق قلبي ببعدهم أكثر، وأحاول التظاهر أمامهم بقوتي لكني أتحرّق بشعور الغربة من الداخل”.
وهذه الفرقة القسرية والتشتيت المتعمد من إسرائيل، يرى الغزيون أنها تمنعهم من الالتئام، تماهيا مع سياسة التنغيص وإقامة الحد على كل من قرر البقاء في قطاع غزة. وتُضيّق إسرائيل على المسيحيين حتى قبل الحرب، وترفض بلا أسباب منح الكثيرين منهم تصاريح للعبور إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ورغم ذلك، تصرّ نجلاء على البقاء في قطاع غزة، تقول وهي تبتسم بمرارة “لا أريد مغادرة غزة، وُلدت هنا ودرّست أجيالا في مدارس الأونروا، وجذور عائلتي ضاربة في هذه الأرض، وغزة بالنسبة لي كل شيء، قلبي وروحي وعيني”.
وأكثر ما تتمناه نجلاء، في ظل تشتت أبنائها المستمر حتى اليوم أن يأتي عيدٌ تستطيع فيه جمعهم حول مائدة واحدة، لا من وراء شاشة الهاتف.
وعلى بعد خطوات من مدخل الكنيسة، كانت الفتاة أمل هلال (16 عاما) تلتقط صورا مع صديقاتها أمام شجرة ميلاد يتيمة أُضيئت ببضعة مصابيح بسيطة.
وتُعلّق على شجرة الميلاد تلك قائلة إنها بسيطة لأنها تعبّر عن حالتهم اليوم، وتضيف “لا نزيّن الشجرة كما في السنوات السابقة، لا لأننا لا نريد، بل لأن مشاعر الناس منهكة، واجتماعنا نحن هو العيد الحقيقي، فالعيد في قلوبنا قبل أن يكون في الزينة”.
وعند بوابة الكنيسة الخارجية تجلس آمال دون أن تشارك الأطفال لعبهم، كانت عيناها معلّقتين في الفراغ الذي تركه غياب جدّها جورج، الذي قُتل في قصف استهدف الكنيسة خلال الحرب.
وبينما تتقاطع حكايات الصغار والكبار، يأخذ العيد هذا العام شكله في صلوات خافتة ووجوه أنهكها الفقد والحزن.
ورغم الخراب وشظايا الروبوتات الإسرائيلية المفخخة التي لا تزال تصل الكنيسة من الحدود الشرقية، وكأنها تذكر الجميع بأن الحرب لم تنته بعد، ظلّت غزة تقول على طريقتها “حتى من تحت الرماد يمكن لميلاد جديد أن يبدأ”.
