كنعان النشرة الإلكترونية السنة الثالثة والعشرون – العدد 6561
7 حزيران (يونيو) 2023
كنعان النشرة الإلكترونية
السنة الثالثة والعشرون – العدد 6561
7 حزيران (يونيو) 2023
■ قراءات في الراهن العربي من النظري إلى التطبيقي، حلقة 5، عادل سماره
■ عرض كتاب “الحرب والإمبراطورية: طريقة الحياة الأمريكية”، تأليف بول إل أتوود، عرض الطاهر المعز
■ إصدار جديد:
✺ ✺ ✺
قراءات في الراهن العربي من النظري إلى التطبيقي
حلقة 5
- بين القومية والشعبوية: إشكالية الخلط وحتمية الفرز
عادل سماره
ربما يمكننا اعتبار مصطلح الشعبوية من المصطلحات التي قلما يغامر أحداً بتقديم تعريف محدد لها. فغالباً لا يحظى اي تعريف محدد لها حتى بإجماع أقلية! ولكن، لأن هناك استخدام شائع وموسع لهذا المصطلح وإسقاطه على المسألة القومية وخاصة في تعليقات محللي الإعلام، وجدنا من المفيد بعض التناول له.
تٌرد بداية ظهور الحركات الشعبوية ومن ثم صياغة المصطلح، إلى وجود الحركة الاشتراكية الزراعية النارودنية في روسيا القيصرية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ان حاجة الراسمالية لأسواق خارجية كي تحافظ على التراكم كان مرتكز رئيسي لنقد الشعبويين الروس على الراسمالية بما هي نبتة غريبة عن التربة الروسية, وهي الحركات التي تابعها ماركس حيث كتب في فترة متأخرة من حياته بأن الثورة المستندة إلى التشكيلة التشاركية الفلاحية الروسية قد تشكل نقطة انطلاق لتطور الشيوعية في أوروبا.
يرى مُعدُّو كتاب قاموس الفكر الماركسي:
The Dictionary of Marxist Thought, edited by Tome Bottomore 1983
“…أن الشعبوية مفهوم متنوع تم استخدامه لوصف الحركات الاجتماعية والسياسية المتنوعة وسياسات الدولة والأيديولوجيات وبأن محاولات استخلاص مفهوم عام عن الشعبوية هو إلى حد كبير غير كافٍ. لكن يمكننا الإشارة إلى سياقات رئيسية تم استخدام المصطلح فيها. تشير الشعبوية إلى الحركات الراديكالية في أمريكا الشمالية في المناطق الريفية الجنوبية والغربية التي نشأت خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، والتي تعبر بشكل أساسي عن مطالب المزارعين المستقلين المهيمن عليهم في الريف الأمريكي (الذين لم يكونوا فلاحين) “لإسماع شكوكهم وشكواهم من تركز القوة الاقتصادية، لا سيما في البنوك والمؤسسات المالية، وكبار المضاربين على الأراضي وشركات السكك الحديدية.
كان هؤلاء مهتمين أيضًا بقضايا السياسة المالية، وخاصة الإصلاح النقدي والمطالبة بحرية صك العملة الفضية كترياق ضد هبوط الأسعار الزراعية…. ثم هناك الشعبوية الروسية inarodnichestva) التي تعد أهم مثال على الشعبوية في السياق الحالي، لأنها شاركت عن كثب في نقاش مع ماركس والماركسية والحركات الماركسية. استلهمت الحركات الشعبوية الروسية إلهامها من فكر هيرزن وكيميشفسكي واستراتيجياتهما من أفكار لافروف وباكونين وتكاتشيف.
لقد شهدوا أول ظهور كامل لهم في حركة “الذهاب إلى الشعب” والحركة الثانية Zemlya i Volya (الأرض والحرية) في سبعينيات القرن التاسع عشر، ووفقًا لفنتوري فقد وصلوا إلى ذروتهم في الإرهاب (النخبوي) لنارودنايا فوليا (تحرك إرادة الشعوب) في ثمانينيات القرن التاسع عشر. لكن بليخانوف ومن اقتفوا اثره مثل واليكي اعتبروا أن … في الشعبوية الروسية تيار واسع من الأفكار لا تزال موضع اهتمام – تيار كان يعاني من تفارقات داخله هو نفسه وقد أثر على الأفراد والحركات الثورية والشعبية غير الثوريين. كانت مفاهيمها المركزية هي نظرية التطور غير الرأسمالي، والفكرة القائلة بأن روسيا يمكنها وينبغي عليها تجاوز المرحلة الرأسمالية وبناء مجتمع اشتراكي قائم على المساواة والديمقراطية على أساس قوة المجتمع الفلاحي والإنتاج السلعي الصغير. كانت معادية لتنظيم الإنتاج على نطاق واسع… تشكل الفكر الشعبوي الروسي تحت تأثير قوي لتحليل ماركس للتطور الرأسمالي. تمت ترجمة رأس المال الأول إلى الروسية من قبل الشعبوي، نيكولاي دانيلسون، ودرس المثقفون الشعبويون أعمال ماركس والماركسيين عن كثب. ولكن على عكس ماركس نفسه، لم يقرأ الشعبويون في أعماله سوى نقدًا مدمرًا للتطور الرأسمالي وآثاره المنفردة، واعتبروها عملية اجتماعية رجعية وليست تقدمية. يمكن لروسيا أن تتجنب المرور بهذه المرحلة بسبب وجود جماعة الفلاحين (انظر المجتمع الروسي) كأساس محتمل لبناء الاشتراكية.
…لم يرفض ماركس نفسه هذه الفكرة تمامًا، كما يتضح من رسالته إلى فيرا زاسوليتش حول هذا الموضوع (8 مارس 1881) ومقدمة للطبعة الروسية من البيان الشيوعي حيث اعترف بإمكانية أن تكون البلدية بمثابة نقطة الانطلاق لتطور شيوعي شريطة أن يكون ب”إشارة لثورة بروليتارية في الغرب”.
حدد لينين أيديولوجية الشعبوية، تاريخيًا واجتماعيًا، على أنها احتجاج على الرأسمالية من وجهة نظر صغار المنتجين، وخاصة الفلاحين الذين تقوض وضعهم بسبب التطور الرأسمالي ولكنهم، مع ذلك، أرادوا حل النظام الاجتماعي الإقطاعي. بينما وصف لينين الأيديولوجية الشعبوية بأنها رومانسية اقتصادية، وهي مدينة فاضلة برجوازية صغيرة متخلفة.
لقد عارض لينين الإدانة أحادية الجانب للشعبوية، كما يظهر في جداله ضد الماركسي القانوني ستروف حول هذا الموضوع. كما ميز بين الأيديولوجية الأكثر راديكالية والمعادية للعيش والديمقراطية للحركات الشعبوية السابقة، وبين الميول اليمينية للمثقفين الشعبويين اللاحقين مثل ميخائيلوفسكي الذين مثلوا في المقام الأول رد فعل ضد التطور الرأسمالي. ولكن حتى فيما يتعلق بالشعبوية المعاصرة، فقد كتب: “ من الغريب أنه سيكون من الخطأ تمامًا رفض برنامج النارودني بأكمله دون تمييز في مجمله.
يجب أن نميز بوضوح بين جوانبها الرجعية والتقدمية (“المحتوى الاقتصادي للنارودنية”). وهناك سياق آخر انتشر فيه مصطلح الشعبوية هو سياق أيديولوجيات الدولة في بلدان أمريكا اللاتينية، حيث إنها استراتيجية سياسية تستخدمها البرجوازية الأصلية الضعيفة لتشكيل تحالف مع الطبقات التابعة ضد الأوليغارشية الزراعية، بشروط لا تعطي وزناً مستقلاً للطبقات التابعة التي يتم جلبها من أجل تعزيز التصنيع. هذا نقيض للشعبوية كأيديولوجية للحركات القائمة على الريف في صراع مع القوى المهيمنة في الدولة.
إن الحالات النموذجية للشعبوية في أمريكا اللاتينية، بهذا المعنى، هي تلك الخاصة بالبرازيل تحت حكم فارغاس وورثته والبيرونية في الأرجنتين. لكن، يجب أن نضيف، أن المصطلح قد استخدم بشكل فضفاض بدرجة كافية لجعله قابلاً للتطبيق على مجموعة متنوعة من تكوينات سلطة الدولة وقواعدها بين الناس في كل بلد تقريبًا في أمريكا اللاتينية وفي أي مكان آخر.
من السمات الأساسية للشعبوية بهذا المعنى خطابها الذي يهدف إلى حشد الدعم من الفئات المحرومة وطابعها المتلاعب للسيطرة على المجموعات “الهامشية”. هناك تأكيد قوي على دور الدولة. لكنها، مرة أخرى، تدور أساسًا حول أسلوب سياسي قائم على الجاذبية الشخصية للقائد والولاء الشخصي له مدعومًا بنظام محسوب مفصل. الأيديولوجية الشعبوية أخلاقية وعاطفية ومناهضة للتعمق الفكري والنظري وغير محددة في برنامجها. إنها تصور المجتمع على أنه منقسم بين الجماهير الضعيفة وأرباب أقوياء الذين يقفون ضدهم. لكن فكرة الصراع الطبقي ليست جزءًا من هذا الخطاب الشعبوي. بل إنه يمجد دور القائد كحامي للجماهير. يمكن وصف مثل هذه الإستراتيجية السياسية بشكل أفضل بالشخصية بدلاً من الشعبوية، وفي هذا الشكل لها بعض التقاطع مع الفاشية. أخيرًا، قد نفكر في حالة تشير فيها الشعبوية إلى أيديولوجية الدولة، ولكنها حالة تتبنى رؤية للمجتمع والتنمية الوطنية تشبه رؤية الشعبويين الروس.
والمثال الأكثر بروزًا وثباتًا (حتى الآن) لهذا النهج في التنمية الوطنية هو مثال تنزانيا، الذي يهدف إلى استراتيجية تنمية صغيرة النطاق قائمة على الريف، وتجنب الصناعة واسعة النطاق والانخراط في اخطاب على الأقل مغاير – لمسار التنمية الرأسمالية”
يمكن للمرء الاطلاع على ويكيبيديا لتفاصيل أكثر ولكن بشكل غير دقيق معلوماتيا، ولا علمي ولا تقدمي طبعاً.
من المهم طبعاً الانتباه إلى قدرة الإمبريالية على استغلال الحركات الشعبوية في المحيط وتضخيم الشرائح الكمبرادورية فيها كي تنشق عن الدولة الأم وبهذا تتحول إلى أداة لصالح الإمبريالية كما هو في أوروبا الشرقية و كانتونات العراق، أو محاولات إضعاف حكومة موراليس في بوليفيا من خلال الدعم السري لمزاعم “الحكم الذاتي” للأوليغارشية البيضاء (شبه تكرار لأزمة الكونغو الأولى). إذا كان هدف الإمبريالية في الماضي بشكل عام هو إنكار الدولة المنفصلة عن الدول المضطهدة، فإن الهدف اليوم هو تشجيعها بشكل انتهازي. وهذه النماذج هي التي أسميتها “الموجه القومية الثالثة” بما هي تصنيع إمبريالي.
“…الشعبوية ليست ظاهرة “ ريفية ” ولا “ برجوازية صغيرة ”، ولا نوعًا محددًا من “ الحركة ” أو “ الحكومة ”، ولا هي في الأساس خطابًا “ مناهضًا للنخبوية ”، ولا تتوافق مع “ البونابرتية ”، وهي من أعلى إلى أسفل، شكل شخصي من السياسة. إن الفكرة الليبرالية عن “الشعب” كـ “ناخب” فردي هي في حد ذاتها أداة أيديولوجية شعبوية ادعت تاريخياً أنها معادية للنخبوية والتي، علاوة على ذلك، أصبحت مؤسسية في أنظمة برلمانية متعددة الأحزاب. وبالتالي، قد نتفق مع Laclau (1977 ؛ انظر أيضًا 2005)، على أن الشعبوية هي مبدأ التعبير في المجتمعات الطبقية الحديثة، التي تجمع طبقات مختلفة، وبالتالي، تفتقر إلى محتوى طبقي محدد أو “نقي”. يقدم Boratav (الفصل الخامس، هذا المجلد بوتومور) حالة مماثلة فيما يتعلق بالشعبوية في سنوات ما بعد الحرب، والتي كانت، في الواقع، طريقة لتنظيم ديناميكيات التوزيع. “
يمكن رؤية مثال على هذا الفهم الشعبوي للإرادة العامة في خطاب تنصيب شافيز عام 2007، عندما ذكر أن “جميع الأفراد عرضة للخطأ والإغواء، ولكن ليس الأشخاص الذين يمتلكون درجة عالية من الوعي مصلحته الخاصة ومقياس استقلاليته. وبسبب أن حكمه نقي، وإرادته قوية، ولا يمكن لأحد أن يفسدها أو حتى يهددها “. لعل مقارنة نظام فنزويلا في فترة شافيز مع النظام الكوبي مناسِبة لفهم الفارق بين الشعبوية والنظام الاشتراكي وعلى الأقل من باب التنمية لا سيما وأن فنزويلا بلد غني مقارنة مع كوبا لكن الخلاف او الاختلال كان في إدارة الموارد وعلمية توزيعها. لذا صمدت كوبا أمام حصار الأطول والأقسى في العالم بينما كادت تنهار فنزويلا من حصار أقصر زمناً واقل شدة.
العلاقة التناقضية بين القومية في بلدان المحيط وبين الإمبريالية دفعت الأخيرة، وخاصة مع عودة ظهور القومية لاتهام القومية بشدة، من قبل اليسار واليمين على حد سواء.
أصبح مصطلح الشعبوية شائعًا بشكل متزايد بين علماء الاجتماع في الدول الغربية، وفي وقت لاحق في القرن العشرين تم تطبيقه على مختلف الأحزاب السياسية النشطة حتى في الديمقراطيات الليبرالية. وفي القرن الحادي والعشرين، أصبح المصطلح شائعًا بشكل متزايد في الخطاب السياسي، لا سيما في الأمريكتين وأوروبا، لوصف مجموعة من الجماعات اليسارية واليمينية والوسطية التي تحدت الأحزاب القائمة.
كما اوضحنا في غير حلقة من هذه السلسلة فإن المسألة القومية هي حالة نهوض ووعي ونضال دفاعي عن الوجود والحقوق وطموح التطور، وعي أمة لوجودها وضرورة تطورها. أما في بلدان المحيط فهي حالة نضالية كثيراً ما تجاوز عنها البعض الأمر الذي كان مؤداه تشويه هذا الحراك النضالي المُحق ضد الراسمالية الإمبريالية الغربية.
صحيح أنه في القومية هناك زعماء لهم شعبية كبيرة، ولكن ليس بمستوى تقديس الزعيم في الشعبوية أو طبعاُ الفاشية وذلك لأن المسألة القومية وخاصة في المحيط هي حالة نضال جماعي ولذا لا يمكن حصره في كفائة أو قيادة فرد مهما كانت شخصيته كارزمية.
كثيراً ما وُسمت القومية، بتشويه مقصود بالشعبوية وطبعاً بالشوفينية بهدف غمط حقوق الأمم المضطَهَدة في التحرير والتحرر والاستقلال والتنمية، وفي التحليل الأخير التحكم بالفائض لديها كتراكم.
صحيح أنه في كل أمة هناك عزة معينة وفخار ايضاً وقد يصل لدى البعض وخاصة في مراحل معينة وأزمات معينة حد تخيل التفوق والتميز وحتى العنصرية، ولكن هذه استثناءات إذا ما قورنت بالهدف السياسي للقومية وهو حق الأمم.
ومع ذلك، فإن سَبْق الغرب الأوروبي بتحقيق موجة القومية الأولى في العصر الحديث ترتبت عليه سلبيات عدة:
يجب أن تتم معالجة العلاقة بين الأمرين اي القومية والشعبوية على ضوء الحقب التاريخية التي يمر بها كل بلد.ولأن الغرب لا يزال متفوق ومتقدم في عديد المجالات فقد تمكن من فرض كيفية التناول والتعاطي مع مختلف الأمور في العالم الأمر الذي يحتاج مقاومة حقيقية. إن عودة الشعبوية إلى الغرب أمر مفهوم وخاصة على ضوء الأزمة الاقتصادية للراسمالية الاحتكارية والتي يُخلق على ضوئها دور لزعيم كاريزمي فردي يجذب الجمهور ضد النخبة الضئيلة الاستغلالية. وهذا الوضع مقلق وتحشيدي لدرجة قد تعادل غضب شعبي في المحيط ضد وجود الاستعمار.
تقديرنا بأن ما يشغل بلدان المحيط هو النضال القومي وليس الشعبوي باعتبار ظهور الشعبوية غالبا في دول مستقلة أو ما بعد الاستقلال.
فإذا كان لنا أن نعتبر المسألة القومية هي حركة بناء ونهوض عموما وحركة تحرير وتحرر وتنمية في المحيط فإن الشعبوية غالباً هي حركة وظاهرة في المجتمعات بعد استقرارها، وتحديداً حين لا تكون تحت استعمار سواء عسكري أو استيطاني، ومن هنا يكون الفصل بين الظاهرتين مبرراً ومنطقياً.
ومن ناحية ثانية، فإن الشعبوية، وإن بدأت تاريخياً في بلدان الغرب، إلا أن هذا لم يمنع ظهورها في المحيط بعد الاستقلال، أو لنقل ظهورها تبادليا على الصعيد العالمي فقد تزايدت في أوروبا وأمريكا في العقدين الأخيرين مثلاً إيطاليا برلسكوني، والمجر بزعامة اوربان وأمريكا ترامب، وكذلك في الأرجنتين والبرازيل في امريكا اللاتينية.
لعل أهم الفوارق بين القومية والشعبوية أن الشعبوبة حالة أكثر عاطفية لذا استمراريتها محدودة، بينما القومية هي انتماء وتعبير عن وجود موضوعي لأمة تاريخه واقعها وحضورها. القومية تعبير عن أمة ودولة او إقامة دولة ومن هنا ماديتها بينما الشعبوية حالة إيديولوجية عابرة.
ولأنها رومانسية تتلاشى تدريجيا لتنتهي إلى التوزع بين:
- راديكالية طبقية
- امتصاص السلطة لجزء
- اعتقال جزء
- تلاشي الأكثرية
✺ ✺ ✺
عرض كتاب بعنوان “الحرب والإمبراطورية: طريقة الحياة الأمريكية”
تأليف بول إل أتوود
War and Empire: The American Way of Life
Paul L. Atwood
الطاهر المعز
استوحى المؤلف هذا الكتاب من حياته كمُدَرّس جامعي اكتشَفَ على مدى سنوات عديدة جَهْل طُلاّب الجامعة بالتاريخ الأمريكي وبتاريخ الشعوب والبلدان والدّول الأخرى، وبالسياسة والعلاقات الدّولية بشكل عام، واستنتج إن ذلك جزء من أسلوب الحياة الذي أُريدَ لهم أن يتبعوه، أو ما يُعَبَّرُ عنه بأسلوب الحياة الأمريكي ( The american way of life ) ويتضمّن نشر الجهل والشوفينية والعُنصرية ويتميز بضيق الأُفق، واعتبر المؤلف إن كتابه عبارة عن مقدمة مفتوحة لنقد أسلوب الحياة الأمريكي للطلاب الجامعيين بشأن التاريخ الأمريكي والسياسة والعلاقات الدولية، واعتبر العديد من نُقّاد الأدب أن الكتاب دراسة “استفزازية”، لأن بول أتوود حاول أن يُظهر للأمريكيين أن تاريخهم هو “سلسلة من الحروب العدوانية المستمرة ومن التوسع الإمبراطوري”.
وجد “أتوود” خلال مسيرته كمدرِّس أن معظم الطلاب لا يعرفون شيئًا عن تورط أمريكا في حروب القرن العشرين، ناهيك عن الحروب التي سبقتها، ويهدف كتاب “الحرب والإمبراطورية” إلى تصحيح هذا الأمر، ليُوضِّحَ بشكل منطقي ومُقْنِع خفايا القرارات الأمريكية خبل وأثناء كل حرب كبرى منذ إعلان “الاستقلال”، ويُظهر الكتاب إن الولايات المتحدة لم تنجَرَّ أبدًا، في تاريخها القصير، إلى خَوْضِ حُرُوب لا تريدها أو إلى الدّفاع عن أراضيها، بل اختار القادة الأمريكيون دائمًا معاركهم من أجل زيادة نفوذهم وقوتهم، دون أي مُراعاة لحياة الجنود الأمريكيين والمدنيين “الأعداء” الذين قتلوا أو عانوا الويلات جراء هذه الحُرُوب.
نُشرت الطبعة الأولى للكتاب سنة 2010، وبقي المؤلف (بول أتوود) يكتُبُ ويُطَوِّرُ ويقوم بتحديث المعلومات طيلة أكثر من عقد، وكتب على سبيل المثال سنة 2018 مقالا بعنوان “تسويق الحرب: القرع المُستمر لطٌبُول الخَطَر المُمِيت” ( Marketing war : The incessant drumbeat of martal danger )، كما كتب مقالا خلال نفس السنة بعنوان “هل لا زلتم تعتقدون إننا أبرياء؟”، وكان أحد مقالاته الأخيرة بعنوان “محارب قديم من أجل السلام”، حيث يُذَكِّرُ بمسيرة الولايات المتحدة كقوة مُعتدية منذ تاريخ ما سُمِّيَ “الإستقلال”، وهي مُغالطة لأن لا أحد استعمَر أمريكا سوى المُستوطنين الأوروبيين الذين أبادُوا الشُّعُوب الأصلية واستولوا على أراضيهم لزراعتها بواسطة العبيد، ومراكمة رأس المال بسرعة قياسية لتتحول الولايات المتحدة إلى قوة رأسمالية امبريالية، قبل الإعتداء على بقية شعوب العالم…
لم يقم أي جيش أجنبي بغزو الولايات المتحدة، منذ غزو المستوطنين الأوروبيين لأراضي الأمريكيين الأصليين، وفي المقابل انطلق عدوان الإمبريالية الأمريكية مُبَكِّرًا، وبعيدًا عن أراضي أمريكا الشّمالية، فقد قصفت البحرية الأمريكية طرابلس وتونس والجزائر بين سَنَتَيْ 1805 و 1815، وشن الجيش الأمريكي حروبًا عدوانية ضد المكسيك سنة 1846 وإسبانيا سنة 1898 واحتلت الولايات المتحدة الفلبين، ولا تزال تحتل العديد من الجزر، وجزءًا من كوبا وأكثر من نصف أراضي المكسيك…
لم يهاجم أي جيش الولايات المتحدة، خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، فلم تهاجم لا ألمانيا ولا إيطاليا ولا اليابان الولايات المتحدة، ومع ذلك بررت الدّعاية الأمريكية مشاركتها في الحرب بادعاء “الدفاع عن الحريات والديمقراطية”، لكنها مجرد أكاذيب مثلما انتشرت الأكاذيب لتبرير الحروب العدوانية الأخرى ضد كوريا وفيتنام ويوغوسلافيا وما يسمى بالحرب على الإرهاب والتي كانت بمثابة ذريعة لاحتلال أفغانستان أو العراق، ولتفكيك مؤسسات الدولة وتفتيت البلدان كما الحال في ليبيا والصومال وسوريا واليمن وغيرها.
لم يتغير الأمر، حيث تشن الولايات المتحدة (وذراعها العسكرية: حلف شمال الأطلسي) اليوم حربًا بالوكالة في أوكرانيا تحت ذرائع مختلفة، ولم تبدأ الحرب اليوم أو يوم الرابع والعشرين من شباط/فبراير 2022، بل بدأت الاستعدادات لهذه الحرب سنة 2014، عندما أطاح انقلاب يميني متطرف ( بمشاركة مليشيات نازية تدعمها الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي والكيان الصهيوني وتركيا…) بالحكومة الأوكرانية والبرلمان المنتخب ديمقراطيًّا، وقدّرت البحوث الأمريكية أن الولايات المتحدة استثمرت خمسة مليارات دولار للمساهمة في تغيير السلطة والنّظام السِّيَاسِي في أوكرانيا المتاخمة لروسيا، ثُمّ تم توقيع اتفاقية “مينسك”، سنة 2015، من قِبَلِ الحكومة الأوكرانية الجديدة، بإشراف ورعاية فرنسا وألمانيا وروسيا، بهدف تَجَنُّبِ الحرب، فيما رفضت الولايات المتحدة التوقيع على الاتفاقية وفعلت ما في وِسْعِها لتقويض اتفاقية السلام هذه، وإفْشال تطبيقها، بالتوازي مع تدريب عناصر المليشيات النازية ودعمهم في تنفيذ هجماتهم المتكررة، بالإشتراك مع مجموعات مسلحة أخرى، سكان منطقة “دونباس” الذين تم منحهم الحكم الذاتي بموجب اتفاقيات مينسك، لذلك يُمكن التّأكيد إن أوكرانيا والولايات المتحدة أطلقت الحرب الحالية منذ سنة 2014…
قدّر برنامج “مشروع تكاليف الحرب” التابع لجامعة “براون” الأمريكية أن ما لا يقل عن 4,5 ملايين حالة وفاة نجمت عن حرب أمريكا “على الإرهاب” ويشير أحد تقارير هذا البرنامج إلى أن “عدد الضحايا المدنيين في الحرب، وخاصة الأطفال، غالبًا ما يفوق عدد المقاتلين المسلحين في الجانِبَيْن المتحارِبَيْن”، وعلى سبيل المثال، قتلت القنابل الأمريكية ما بين 3 إلى 4 ملايين شخص في فيتنام، قبل وقف إطلاق النار، لكن تستمر القنابل التي لم تنفجر ساعتها في قَتْلِ المدنيين ( من فلاحين ونساء وأطفال …) خلال العقود الخمسة الماضية في فيتنام ولاوس وكمبوديا، ولا تزال المادة الكيماوية السامة المُسمّاة “العنصر البرتقالي” تسمم الأرض والماء والغذاء، وتستمر الحرب في إحداث تشوهات خلقية لا حصر لها بين السكان المدنيين، ولا يزال الإشعاع الناتج عن صواريخ اليورانيوم المُنَضّب يَقْتُلُ ويسبب السرطان والتشوهات الخلقية وحالات الإجهاض في العراق وفلسطين وأماكن أخرى من العالم، حيثما مَرّ الجيش الأمريكي، وترتبط معظم الوفيات في أفغانستان خلال عشرين عاما، بالاحتلال الأمريكي، كما أن الحرب بالوكالة في أوكرانيا تهدد بإحداث كارثة نووية، وبالتوازي مع ذلك، يستعد الجيش الأمريكي لشن حرب ضد الصين، المنافس الاقتصادي للولايات المتحدة.
تقدر العديد من الدراسات أن الإنفاق الحربي الأمريكي (الإنفاق على التّسلّح) قد تجاوز ثمانية تريليونات دولارًا منذ الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001، بذريعة الحرب على الإرهاب، بينما تُعدّ الولايات المتحدة أكبر مَصْدَر لنَشْر الإرهاب، لأن الحُروب العدوانية مَصْدَرُ ثراء لمُجَمّع الصناعات العسكرية الأمريكية، الذي يستخدم أبناء الفُقراء حَطَبًا لهذه الحروب، ويُقدّر أن 20% من المشردين في الولايات المتحدة من المحاربين القدامى الذين لفظتهم الآلة الحربية بعد استخدامهم في العدوان على البلدان والشعوبن كما ترفض السلطات الأمريكية (الحكومة والنواب المنتخبون) إقرار نظام شامل للحماية الاجتماعية يتضمّن التأمين الصحي والمعاشات التقاعدية ومساعدة المُعَطّلين فقراء البلاد، فيما تَحُثُّ هذه السلطات على زيادة الميزانية العسكرية كل عام، وتقليل الإنفاق الاجتماعي وأي إنفاق يُساهم في رفاهية الناس.
✺ ✺ ✺
إصدار جديد:
السوفييت وتقسيم فلسطين: إضاءات على كارثة تاريخية وأيديولوجية وجيو-سياسية
صدر عن مركز المشرق/العامل للدراسات الثقافية والتنموية/رام الله
تأليف د. مسعد عربيد
أوَّل وأدق دراسة موثقة عن دور السوفييت في تقسيم فلسطين بين ورطة الدولة وتغييب الثورة.
الكتاب ومعظم كتبنا متوفرة في:
مكتبة معرض الكتاب الدائم/رام الله عمارة النتشة وسط البلد
مكتبة الجعبة/رام الله قرب المنارة
أزبكية رام الله/رام الله الماصيون مقابل المشرق للتأمين.
دار الشروق رام الله. الموزع: محمد دله هاتف 0592513132
________
تابعونا على:
- على موقعنا:
- توتير:
- فيس بوك:
- ملاحظة من “كنعان”:
“كنعان” غير مسؤولة عن الآراء الواردة في المقالات، بل هي تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو محرري نشرة “كنعان” الإلكترونية أو تبنيهم لهذه الآراء والمواقف.
ومن أجل تنوير الناس، وكي يقرر القارئ بنفسه رأيه في الأحداث، ونساهم في بناء وعيً شعبي وجمعي، نحرص على اطلاع القراء على وجهات النظر المختلفة حيال التطورات في العالم. ومن هنا، نحرص على نشر المواد حتى تلك التي تأتي من معسكر الأعداء والثورة المضادة، بما فيها العدو الصهيوني والإمبريالي، وتلك المترجمة من اللغات الأجنبية، دون أن يعبر ذلك بالضرورة عن رأي أو موقف “كنعان”.
- عند الاقتباس أو إعادة النشر، يرجى الاشارة الى نشرة “كنعان” الإلكترونية.
- يرجى ارسال كافة المراسلات والمقالات الى عنوان نشرة “كنعان” الإلكترونية: mail@kanaanonline.org