غزة: أسرى محرومون من الزيارة.. العقاب بمحو الذاكرة

الإنتشار العربي :ينادي الفجر يومًا جديدًا. عجلات حافلة الصليب الأحمر، تتحرك نحو السجون الإسرائيلية المسموح لبعض الأسرى فيها باستقبال ذويهم، تحمل على متنها قلوبًا شاخت على أعتاب الأمل، والكثير من الأشواق المُرسلة.. إلى حين لِقاء.
قرب النافذة تلتحف مسنةٌ حقيبةً صغيرة كما لو كانت جزءًا من جسدها، “ففيها هدايا للبطل: بعض الملابس الشتوية وطعامًا يحبه” تقول لمن حولها. لعلَّ السجّان لن يسمح بإدخالها، لكنها ستحارب.
في رحلةٍ تستمر لمدةٍ لا تقلُّ عن 16 ساعة “سيتخشّب” ظهرها على الكرسي، وقد يرتفع “ضغطها”، أو ينخفض في جسدها النحيل مستوى “السكر”، “وكله فداء نظرة إليه.. فداء نصف ساعة تراه فيها ولو من خلف الزجاج، أو تنصتُ لصوته الأجش خلالها، ولو عبر سماعة هاتف”!
في الزاوية الأخرى من المشهد، لن تشارك والدة الأسير مرعي أبو سعيدة (من شمال قطاع غزة)، هذه المرة أيضًا- ذوي الأسرى الرحلة، فهي محرومةٌ من الزيارة إلى جانب كامل العائلة والأقارب، “ومنهم ابنه الذي بلغ من العمر 17 عامًا، ولم يتلقِ بوالده مرة”!
يعيش حفيدها “أحمد” على صورةٍ من الذاكرة تسلمها الأهل قبل سنوات، من إحدى العائلات التي سُمح لها بالزيارة، “ولكن ذلك لا يكفي. هناك شوقٌ لعناقٍ يطول” مع ابنها المحكوم 11 مؤبدًا، وقضى منها 19 عامًا، دون أن يلتقيه أحد.
“أي إجرامٍ هذا؟” تتساءل أمه، وتتابع: “كيف يمنعون سيدةً تبلغ من العمر 70 عامًا من رؤية ابنها أو زيارته على مدار عقدين؟ (..) لقد توفي زوجي -والده- قبل سنوات.. مات ولم يرَه، ماتَ مكلومًا على ولده الذي أكل العمر قلبه داخل سجن نفحة”.
وتنطلق حافلات برنامج “الزيارات العائلية لذوي الأسرى”،الذي تنظمه اللجنة الدولية للصليب الأحمر مع ساعات الفجر الأولى من مقر اللجنة. زياراتٌ قد يمنعها المحتل لأشهر، فيما قد تُحدّدُ أسماء ضمن قائمة “الممنوع” هكذا، وبدون سبب، وأحيانًا تحت مبررات إسرائيلية واهية كعقاب الأسير، أو عقاب عائلته التي قد يكون أحد أفرادها -ولو كان قريبًا من الدرجة الأخيرة- ممنوعٌ أمنيًا، “منتميًا مثلًا للحركات الإسلامية كحماس والجهاد الإسلامي”، وفقًا لقانونٍ إسرائيليٍ سنّه الاحتلال منذ ستة أعوام.
“هذا المنع أحدث نقصًا حادًا في احتياجات الأسرى من الملابس والأحذية، بينما تفرض إدارة السجون الإسرائيلية على الأسرى شراءها من المقصف بأسعارٍ مرتفعة، الأمر الذي يضاعف المعاناة مرّات” وفقًا لمركز الأسرى للدراسات.
الأسير محمد مرتجى أحد موظفي مؤسسة ” تيكا” التركيةمثلًا، اعتُقل عام 2017م عند حاجز “بيت حانون- إيرز” شمال قطاع غزة، أثناء توجهه للمشاركة في مؤتمرٍ عام تعقده مؤسسته في تركيا، “وها هو اليوم، وبعد عمله لسنوات في توفير احتياجات أهالي القطاع اليومية، صار بحاجةٍ للمساعدة داخل قضبان السجن، ولبعض الملابس التي يمنع الاحتلال والدته من حملها له أثناء الزيارة”.
“ويبلغ عدد الأسرى الفلسطينيين 4700 أسيرًا، بينهم 31 امرأة، و172 طفلًا، و682 معتقلًا إداريًا، و500 أسير مريض، و551 أسيرًا يقضون أحكامًا بالسجن المؤبد، إضافةً، إلى 214 أسيرًا مضى على اعتقالهم 20 عامًا أو أكثر”، وفقًا لهيئة شؤون الأسرى.
أما أسرى قطاع غزة فيبلغ عددهم 200 أسير، (27 أسيرًا منهم محكومون بالسجن المؤبد، أو بالسجن مدى الحياة).
على أبواب الشوق
عائلة الأسير أحمد شمالي، هي الأخرى محرومةٌ من الزيارة، “حتى زوجته وأبناؤه” تقول والدته.
بعد كل شهادةٍ مدرسيةٍ يحصل عليها ابنه، يدخل المنزل على أمل أن يجد القدر وقد حضّر له هدية “والده محررًا”، فيعرض عليه درجاته المدرسية، ويضحك لقرصة أُذُن: “أين ذهبت الـ 2% الباقية؟”.
تردف جدّته: “في قلب حفيدي حلم صغير يتمنى أن يتحقق ذات يوم: صورة.. فقط صورة تجمعه مع والده، فتطفئ شوق ما مضى، وتربطُ على قلبه بما هو آت”.
أمام مقر الصليب الأحمر تتزاحم القصص. في موعد الزيارة، أو في اعتصامات ذوي الأسرى الأسبوعية،يتسابق المحرّرون من الأسر للمساندة. “عبد الله” على سبيل المثال، يقف في الصف الأول دعمًا لاحتجاجٍ على الإجراءات الإسرائيلية الأخيرة بحق الأسرى الفلسطينيين، تلك التي تأتي تمهيدًا لقانونٍ يسعى وزير الأمن القومي الإسرائيلي “إيتمار بن غفير” لعرضه أمام “الكنيسيت”، ويقضي بتشريع عقوبة الإعدام، بحق الأسرى الفلسطينيين.
“عبد الله” يعرف تمامًا معاناة الأسرى خلف قضبان المحتل، فقد كان محرومًا من الزيارة لمدةٍ فاقت الخمس سنوات، ضمن محكوميته البالغة عشرة! “هناك قابلتُ شتى أنواع العذاب المعنوي والمادي، عزلة السجن، وشوقي لأهلي، وقلقي لانقطاع أخبارهم” يقول.
كان يرسل أخباره مع ذوي الأسرى المسموح لهم بالزيارة، ويدعوهم لجلب صور جديدة لوالديه وأشقائه، “لعلّها تقرّب البعيد، وتهدئ روع الشوق إلى حضن الحرية” يكمل.
قوانين دولية
ويحتكم الأسرى الفلسطينيين -في ما يتعلق بزيارات الأسرى- لاتفاقيات جنيف الثالثة والرابعة والبروتوكول الإضافي لها، ولكن الاحتلال لم ينضم لهذه الاتفاقيات، وبالتالي فهو لا ينفذّها، ويعارض بذلك مبادئ القانوني الدولي العام، ويضع بنوده على الرف، ويسوق بعض الزيارات لوجه كيانه “الأكثر ديمقراطية في الإقليم”.
ولم تلتزم سلطات الاحتلال بالضمانات الخاصة بحماية السكان المدنيين، ولا حتى بالقواعد الناظمة لحقوق المحتجزين وأوضاعهم. تلك الضمانات والقواعد التي تناولها القانون الدولي، وأكد عليها، وألزم دولة الاحتلال بالإيفاء بالتزاماتها بخصوصها في تعاملها مع الأسرى والمعتقلين المحتجزين لديها، “بما يحفظ حقوقهم وكرامتهم الإنسانية في تلقي الرعاية الصحية اللازمة، والمأكل المناسب، وتمكين عوائلهم من زيارتهم، والتواصل الإنساني الدائم معهم”.
ووفق اتفاق “أوسلو” الموقع بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال عام 1994م، يجب إطلاق سراح كافة الأسرى الفلسطينيين الذين اعتقلتهم سلطات الاحتلال الإسرائيلي قبل بدء عملية السلام، ونصت على ذلك أيضًا مذكرة تفاهم “شرم الشيخ”، التي شددت على إلغاء القوانين والتشريعات العنصرية، وعلى رأسها سياسة الاعتقال الإداري، ووقف تطبيق القوانين واللوائح العسكرية، التي تحرم الفلسطينيين من الإجراءات القانونية العادلة.
وينص اتفاق “أوسلو” كذلك، على تسهيل الزيارات العائلية للمعتقلين، وتيسيرها بانتظامٍ ودونما انقطاع، “وهذا ما لم ينفذ على أرض الواقع” يقول الأسير المحرر عبد الله.
يعود عبد الله بذاكرته إلى سنواتٍ قضاها بين جدران الزنزانة الرطبة، ينصت إلى أنين أسرى أكَلَ صحتهم “الإهمال”، وإلى شهقات أسيرٍ “أب” في جنح الليل، عرفَ أن زوجته أنجبت “بِكرَه”. سنواتٌ قضاها يشتهي سماع صوت أمه، ويستدعي ذكريات عمر الحرية، حتى لا تتوه عنه صورتها مع امتداد سنين الظُّلم. “الحرمان من الزيارة، أقسى من السجن نفسه صدقوني” يختم.