د. أمين دراوشة: الشخصية الوطنية في رواية “صديقتي اليهودية” لصبحي فحماوي
الإنتشار العربي :د. أمين دراوشة
زمن الرحلة محدد بدقة، فهو يبدأ في يوم 121993/6/ وينتهي في يوم 291993/6/، أما الزمن الروائي فهو زمن واسع ومفتوح، إذ عبر صفحات الرواية يتطرق الراوي إلى أحداث تاريخية موغلة في القدم، فيأتي على ذكر الكنعانيين والبابليين والرومان واليونان وغيرهم.
تنطلق الرحلة صباحاً بحافلة من لندن، ونعرف أنه العربي الوحيد في المجموعة. يواجه بعض المشاكل عندما تعرف الدليلة السياحية لورا المجموعة عليه، إذ لا إرادياً تصرخ امرأة بيضاء خوفاً من هذا العربي الغريب.
يتوتر الركاب، ويشعرون بالخوف، فلم يكن من المتوقع أن يكون بينهم عربيً يعكر عليهم صفو رحلتهم السعيدة. تهدأ الأمور، وتشرع الحافلة بالتحرك، ولكن جمال لم يهدأ له بال حتى استدار نحو المرأة الجالسة خلفه، وقال لها: قالت المضيفة أن لديكم ثلاثة وثلاثين جسراً تقطع نهر التيمز؟ سؤالي لك: “هل جاءكم أيُّ عربي، فحطّم جسراً واحداً من هذه الجسور الإنجليزية العتيدة؟” (ص 8).
وتقدم نحوها بوجهه الملتفت إلى الخلف، فأرجعت المرأة الشقراء وجهها المرتبك أمام تقدم وجهه، وكانت ما تزال مرعوبة من هذا العربي الإرهابي. وقالت له: لا.
قال: “كل ما كان عندنا في بغداد هي خمسة جسور، لا نملك غيرها. أتيتم بعديدكم وعتادكم، مدججين بثلاثين دولة غربية معتدية، فحطمتم الجسور العراقية الخمسة اليتيمة لدينا، بدون أي مبرر، بينما لم تخجلوا بوصم العرب بالإرهاب. ترى من هو الإرهابي؟ المعتدي، أم العربي المُعتدى عليه؟” (ص 8).
منذ البداية نتعرف على شخصية جمال القوية والصلبة وغير القابلة للخوف، وقدرته على مواجهة ما يعتري أيامه من صعاب. ينظر إلى المرأة الجميلة التي تجلس إلى جانبه، ويقول لنفسه: لأفتح طريق الحوار معها لأسلي نفسي، وأزيل ما ران عليها من الغم. يعرفها على نفسه، قائلاً: “أنا عربي من الأردن، وأعمل في عالم الحدائق. ولقد استغللت إجازاتي السنوية، بزيارة بعض المعارض الزراعية، والمشاركة في هذه الرحلة الأوروبية” (ص 21).
وهو يتصف بأنه حنطي البشرة، ذو شعر حالك السواد. ولديه رأي حول الإنسان فهو برأيه بشع وقاتل ويتفنن بالتخريب وتدمير كل شيء، ويبدو أن هذا ناتج عن المآسي التي عاشها ويعيشها بسبب الاحتلال الصهيوني لوطنه فلسطين، ووقوف أغلب الدول إلى جانب القاتل والمعتدي، وحتى المؤسسات الدولية لا تتوانى عن دعم المجرم المحتل، ومحاولة وأد كل أمل للفلسطينيين بالحرية.
تتعمق علاقته بيائيل، ويتعود على حضورها في سرير واحد، حتى إنه يجافيه النوم إذا غابت، يقول: “ينام كل منا في غرفته الضيقة، بكل هدوء وراحة، وأما أنا فلن أستطيع النوم وحدي بدون صديقتي اليهودية، التي صارت جزءاً من حياتي.. السياحية منها على الأقل” (ص 223).
يتناقشان في كل المواضيع الحساسة دون ريبة، فقد التقت مشاعرهما، وأحس كل منهما بالراحة والأمان مع الآخر، لذا تسأله يائيل كيف عرف إنها يهودية، رغم أنَّ أنفها ليس معقوفاً كباقي اليهود الساميين.
يقول جمال إنَّ الأنف المعقوف هو الذي يميز الأصل الشرقي أو السامي، عن الغربي. ويهمس لنفسه: المرأة المسكينة لا تعرف أن أصلها من يهود الخزر الأوروبيين، إذ أفهموها زوراً وبهتاناً أنَّ أصلها من فلسطين.
ويخبرها أن الساميين من اليهود هم جزء من هذا العرق السامي العربي اليمني في الجزيرة العربية. وحسب ما قرأ في ويكيبيديا فإنَّ إحدى الدراسات الجينية حول أصل يهود أوروبا، توصلت إلى أنهم ينتمون إلى قبائل “عاشت في منطقة القوقاز تحولت إلى اعتناق اليهودية، وأسسوا إمبراطورية دامت نحو 500 عام. وقال القائم على تلك الدراسة خبير الجينات، اران ايلهايك، من مدرسة جون هوبكنز للصحة العامة في ولاية ميرلاند الأمريكية، إنَّ نتائج تلك الدراسة ينبغي أن تنهيَ الجدل حول أصل يهود أوروبا الدائر منذ أكثر من قرنين من الزمان. ويشكل اليهود الخزريون، أكثر من 90% من يهود العالم اليوم الذين يقدر عددهم بنحو 13 مليون يهودي” (ص 24).
ارتبكت يائيل، ثم قالت له:”فعلاً أنا يهودية، ألمانية الأصل، ولي ولدان يدرسان في المدرسة الثانوية التي أعمل فيها…” (ص 24).
ويخبرها إنه حسب المؤرخ الفيلسوف اليهودي الأمريكي نعوم تشومسكي أن نبوخذ نصّر لم يسبِ يهوداً، وإن المؤرخ العراقي فاضل الربيعي قال: إنَّ نبوخذ نصّر سبى شيوخ اليهود وقادتهم المعارضين له في بلاد اليمن، وليس غيرها.
وهنا تخبره يائيل عن خططها في إرسال ولديها إلى “إسرائيل” بعد انتهائهما من الدراسة ليستقرا هناك. يتفاجأ جمال، ويقول لها: كيف ذلك؟ أتربي الأم أطفالها ليكبرا لتسعد بهم أم تلقي بهم ليتعلموا الكراهية والقتل والدمار؟
تشمئز يائيل من هذا التشبيه، وتقول نريد مكاناً لنا تحت الشمس. ويجري المؤلف الحوار التالي على لسان يائيل وجمال:
– “نريد أن تكون لبني إسرائيل دولة نسميها دولة إسرائيل.
– لا تقولي إسرائيل. قولي فلسطين.
– لا تقل فلسطين. قل إسرائيل.
– إذا كان نص وعد بلفور الذي أسس إسرائيل بقوة الحرب العالمية، يقول “وطناً قومياً لليهود (في فلسطين) فكيف تقولين لي (في إسرائيل). ترى لماذا تدمرين حياتك وحياة أولادك بيديك يا يائيل؟” (ص 63).
فتخبره أنهم يسعون لبناء دولتهم المنتظرة منذ ثلاثة آلاف عام، وها هي تكون، ولا بُدَّ من التضحية لأجلها.
يستغرب هذا الحديث، ويقول: تضحون! تضحون بسعادتكم لتكونوا ظالمين بدل مظلومين؟ ترد: هذا مؤقت، وسينتهي عندما تقام دولتنا الكبرى، وسيغبطنا العالم على ديمقراطيتنا الحضارية.
يغضب جمال، ويقول لها: “لن تنتهي هجراتكم المتكررة، فأنتم شخصيات قلقة، دائمة الحركة، وفلسطين هي أرض معارك متواصلة، اعتدنا عليها منذ نشوء المعرفة على الأرض. ولذلك سماها رسولنا (أرض الرباط). فلماذا ترسلون أبناءكم إلى أرض معارك مستمرة، في وقت تعيشون في الغرب” (ص 64). إنَّ الغرب في النهاية يريد أن يتخلص منكم لأنه يعتبركم أصل الشرور. ويبدي جمال رأيه في الآخر اليهودي بوضوح ودون مواربة، يقول: “يبدو أن فيكم جينات الهجرة يا يائيل! ألا تلاحظين معي أن مواصفات شخصيتكم غير هادئة، وأن خارطة خلاياكم الوراثية، فيها جينات محفزة للتنقل، ولا تعرف القعود، ولا تستطيع الاستقرار حيث تنشده؟ أنتم شخصية قلقة، دائمة الهجرة. ترى لماذا هاجرتم ثماني هجرات تاريخية، بينما بقيت شعوب اليونان والرومان والعرب والألمان، والصينيين واليابانيين والهنود، قابعة في أراضيها، ولم يهاجروا منها، منذ ذلك الحين؟ ترى إلى أين ستكون هجرتكم التاسعة بعد فلسطين؟” (ص 64-65).
تنفعل يائيل، وترد بعصبية: لن تكون بعد هجرتنا إلى فلسطين هجرة أخرى. فنحن بعد كبت ثلاثة آلاف عام من الاضطهاد والكراهية ضدنا، وحصارنا في جيتوهات مقيتة، وإجبارنا على التنقل. فإنه لن يعود أحد قادراً على الدوس على هذا الزمبرك اليهودي، الذي فلت من الكبت المستمر، لقد امتلكنا التكنولوجيا، ورأس المال المسيطر، حتى أن معظم جوائز نوبل يحصل عليها يهود.
يحدثها جمال إنَّ التاريخ دائم التغير، فها هي بريطانيا الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس تلاشت، ونظام الفصل العنصري البغيض في جنوب إفريقيا هزم واندحر، لا بُدَّ لليهود أن يغيروا خططهم في فلسطين.
تدهش يائيل لهذه الأفكار، وتعبر عن امتعاضها لها، فيضيف: “أقول هذا لمصلحتكم. صدقيني أن أجيالكم القادمة لن تستطيع مواصلة العيش في هذه البلاد القاحلة. هذه البلاد لا يستطيع العيش فيها سوى أهلها الطبيعيين. هل تعرفين كيف ارتدّ الصليبيون عن بلاد العرب، بعد أن سيطروا عليها، ودانت لهم البلاد، وتشتت العباد؟” (ص 68). لأنهم اكتشفوا أنَّ حياتهم في الصحاري العربية هي مجرد عطش وتعب، وقتال، واقتتال وانقتال. لذا انهار صمودهم في معركة حطين وما بعدها في القدس. شعوبنا العربية متعودة على مواجهة العدو المحتل والانتصار عليه، ولو بعد حين، ولكن بطريقتها التاريخية الخاصة.
عندها شعرت يائيل أن الحوار يستضعف حججها الفكرية، فحاولت تغيير فحوى الحديث. ولكن جمال استمر في الحديث وقال لها: حتى أن اسمك يائيل، هو اسم كنعاني، وهو يعني يا ألله!
وتستمر النقاشات، ويتواصل الجدل بينهما إلا أنهما يتفقان على شيء واحد وهو كره البواخر، فعندما تخبر يائيل جمال بغضها للسفن، يقول لها: وأنا أيضاً أكرها، لأنها تذكرني بتلك البواخر التي كان يشاهدها جيل أبي من الفلسطينيين، في مينائي حيفا ويافا، وهي تلقي المهاجرين اليهود من كل أنحاء الدنيا على أرصفة الموانئ الفلسطينية، كانت البواخر تُنزل المجندين وذويهم في ميناء يافا، وكأنها أحصنة طروادة، كانت “البواخر بالنسبة لي هي لعنة رياح السموم القادمة من الغرب إلى فلسطين، إذ كانت بصفيرها تُنَفِّر غزلان غابات الكرمل والجليل، وعلى سفوح الشواطئ هناك، تفتح أحصنة طروادة بطونها، فتُخرج رعب حمولاتها المدججة بالمجندين، وتوجههم لإطلاق النيران على كل حي متحرك، لتفرغها البلاد من حيواتها!” (ص 104).
بدا بعد هذا الحوار إِنَّ يائيل قد أعيتها الحيلة، وبدأت تستوعب بعض هذه الأفكار الجديدة عليها، فيضيف: “وبناء على هذا التدافع جاء اليهود المطرودون بالبواخر، حاقدين على من شتتهم. جاءوا كاللعنة، مثل شهاب النار المقذوف من بعيد، ليحرقوا من يَصلون إليهم، وليُشتِّتوا من لم يُقتل من الفلسطينيين، ويقعدوا على جثث المقتولين منهم!” (ص 105).
تقول يائيل محرجة من هذه المعلومات والتشبيهات: إنَّ المسألة ليست مسألة حقد اليهود على الفلسطينيين والعرب، هو حقد اليهودي على التاريخ الذي أمعن في تشتيته، ففي أول فرصة له بمسك السلاح، لم يكن أمامه سوى الفلسطيني، فشرع يطلق الرصاص النار على كل من واجهه. وتضيف: ما يزال اليهودي يحس أنَّ العالم كله ضده، ولهذا فهو مضطر لقتل العالم، إنه ضغط ثلاثة آلاف عام من الاضطهاد والتشريد لليهود، إنه مواجهة الهلاك بالإهلاك.
يرد جمال بهدوء: يا صديقتي العزيزة نحن لم نؤذِ يهود أوروبا، حتى يأتونا مُهجّرين، ثم يدمرونا، ويجرفوا معمارنا، ويقتلوا آبار مياهنا، ويحرقوا البساتين، بدون أي مُبرر.
يشعر جمال بالانجذاب إلى يائيل، ويفكر كيف يغير أفكارها دون أنْ يفقدها، فهو يشعر بصدق مشاعرها الإنسانية، وبضياعها اليهودي، وبنبضات قلبها الملتصق بقلبه.
إنَّ التنزه في المدن الأوروبية يمنح الإنسان الشعور بالفرح والراحة، ويجعله يبحث عن المتعة والابتعاد عما يثير الغضب والنكد، لذا عند الحديث عن مدينة أوستند الجميلة التي تملك شاطئاً من ذهب يمتد طويلاً عريضاً نظيفاً ناعماً، وكأنه امتداد لبحر ساكن لا موج فيه، فإنَّ الإنسان يفكر بالرقص والفرح، يدخل جمال ويائيل إلى أحد المراقص، الذي يعج بالشباب والصبايا المتراقصات المتماوجات مع الشباب، يشربان مشروب ترياق الحياة، وتشتعل هرمونات الرقص في دمهما، ويرقصان حتى التعب والسعادة والضحكات المجللة تغمرها. وعند العودة إلى الفندق تدعوه يائيل إلى غرفتها.
يدخلُ بصمت، ويرى يائيل كامرأة من نوع آخر، غير التي عرفها طيلة الرحلة، فالرسميات وكل الحواجز ما بينهما كسرت. يقول عن هذه الليلة الفارهة: “بينما كانت تتعرى قطعة قطعة عن جسد أشقر زهري اللون ناعم الملمس ممتلئ بلا إفاضة… وقت اللهو طويل ولا داعٍ للعجلة بين هذه الليونات الجسدية الساحرة… يبهرني ويذيب مشاعري شعر أشقر ناعم غزير وكثيف وطويل وعطري الشذى، يتوج محراب مشمشة محرمة محتمية ما بين فخذيها. وبينما روحي تذوب شغفاً بأنوثتها، كانت تتأوه بلهفة” (ص116). وكان لهذه الليلية مفعولها الساحر إذ أزالت منهما ما احتقن من توتر.
رام الله- فلسطين