خدعة السلام: كيف أصبح التطبيع العربي الإسرائيلي إلى أداة لتصفية القضية الفلسطينية
             
      واشنطن- سعيد عريقات
أصرّ الرئيس الأميركي دونالد ترمب يوم الأحد، في مقابلته على برنامج “60 دقيقة” (شبكة سي.بي.إس نيوز) على أن التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل بات وشيكاً، في إشارة إلى مسار دبلوماسي يجري خلف الكواليس منذ أشهر. ومع ذلك، يؤكد السعوديون – علناً وفي اللقاءات المغلقة – أن شرطهم الجوهري لأي تطبيع هو قيام دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية المحتلة. هذا التناقض بين الخطاب الأميركي المتفائل والموقف السعودي الحذر يعكس المعضلة الأعمق في مسار التطبيع العربي–الإسرائيلي: فهو من حيث الجوهر ليس مشروع سلام حقيقي، بل أداة سياسية لإعادة ترتيب الإقليم وفق أولويات واشنطن وتل أبيب، غالباً على حساب القضية الفلسطينية ومرتكزات الأمن العربي الجماعي.
تُعَدّ مسألة التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل من أكثر التحولات عمقاً وإثارة للجدل في بنية النظام الإقليمي العربي خلال العقود الأخيرة. فعلى الرغم من أن الخطاب الرسمي العربي، المدعوم من الولايات المتحدة، يقدّم التطبيع بوصفه خياراً استراتيجياً لتحقيق السلام والاستقرار، إلا أن التجربة التاريخية والوقائع السياسية تشير بوضوح إلى أن هذا المسار لم يكن يوماً وسيلة لإنهاء الصراع أو تحقيق العدالة، بل أداة لإعادة تشكيل المنطقة وفق معادلة جديدة تمنح إسرائيل تفوقاً إقليمياً وتدفع بالقضية الفلسطينية إلى هامش الاهتمامين الرسمي والدولي.
من الناحية التاريخية، انبثقت فكرة التطبيع بعد حرب أكتوبر 1973، حين تبنّت واشنطن رؤية تقوم على نقل الصراع من المواجهة الجماعية إلى مسارات تفاوضية منفصلة، كان أبرزها معاهدة كامب ديفيد عام 1979 ثم وادي عربة عام 1994. غير أن هذه المسارات انطلقت من منطلق مختل، يقوم على مبدأ تطبيع العلاقات قبل إنهاء الاحتلال، وتحقيق الانسحاب الكامل من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة. وبهذا القفز على جوهر المشكلة، تحوّل “السلام” من وسيلة لإنهاء الصراع إلى غاية سياسية بحد ذاتها. لقد اعتمدت الولايات المتحدة وإسرائيل معاً مبدأ “السلام مقابل الأوهام” ، بدلاً من “الأرض مقابل السلام”، فكان التطبيع إطاراً لإدارة الصراع لا لتسويته، ومنطلقاً للاعتراف بشرعية القوة الإسرائيلية بدلاً من شرعية الحق الفلسطيني.
أما مضمون التطبيع، فقد تغيّر في الشكل، لكنه لم يتبدّل في الجوهر. ففي موجته الأولى كان التركيز على الجانب الأمني وضمان الاستقرار، بينما اتخذ في الموجة الثانية، مع اتفاقات أبراهام عام 2020، طابعاً اقتصادياً وتكنولوجياً تحت شعار “السلام من أجل الازدهار”. ومع ذلك، فإن هذه الخطابات التي تبدو براغماتية تخفي واقعاً مغايراً، إذ لم تتحقق الوعود الاقتصادية المعلنة، ولم ينعكس التطبيع على تنمية حقيقية أو استقرار سياسي. فقد بقيت المشاريع الاستثمارية رمزية ومحدودة، في حين استغلت إسرائيل الانفتاح العربي لتوسيع حضورها الاقتصادي والأمني، خصوصاً في مجالات التكنولوجيا السيبرانية والطاقة والاتصالات، مما عزز موقعها كقوة مهيمنة في البنية الإقليمية الجديدة. وهكذا تحوّل التطبيع إلى آلية لخلق تبعية عربية متزايدة لإسرائيل، وليس إلى شراكة متكافئة كما يُروَّج.
على المستوى السياسي، أسهم التطبيع في إحداث تحوّل جوهري في طبيعة النظام العربي. فبدلاً من أن تكون القضية الفلسطينية محور التوافق العربي، أصبحت عقبة في طريق المصالح الثنائية. وتراجعت مركزية فلسطين في الخطاب الرسمي، لتحل محلها أجندة “التعاون الإقليمي” التي تتجاهل جذور الصراع. وتجلّت نتيجة ذلك في ثلاثة مستويات مترابطة: أولاً، تآكل الموقف العربي الجماعي الذي مثّلته مبادرة السلام العربية عام 2002، والتي ربطت التطبيع بإنهاء الاحتلال. ثانياً، إعادة تعريف التهديدات الإقليمية بحيث باتت إيران أو الحركات الإسلامية تُقدَّم كخطر رئيسي، فيما تُبرّأ إسرائيل من مسؤوليتها عن عدم الاستقرار. وثالثاً، إعادة هندسة النظام الإقليمي على أسس تحالفات وظيفية مرنة تقودها واشنطن وتستفيد منها إسرائيل، على حساب الأمن القومي العربي وفكرة العمل المشترك.
ومن منظور استراتيجي أوسع، يمكن القول إن التطبيع لم يؤدِّ إلى استقرار حقيقي، بل إلى تفكك في منظومة الردع العربي. فقد أصبحت إسرائيل فاعلاً إقليمياً مشروعاً ومقبولاً، تمتلك شرعية سياسية واقتصادية متزايدة، فيما تقلصت قدرة العرب على ممارسة الضغط أو التفاوض من موقع القوة. أما الولايات المتحدة، فقد تعاملت مع ملف التطبيع بوصفه أداة مزدوجة للهيمنة: فهي من جهة ترسّخ نفوذها في الشرق الأوسط عبر ربط أمن الدول العربية بالمظلة الأميركية–الإسرائيلية، ومن جهة أخرى تُسهِم في تصفية القضية الفلسطينية تدريجياً بتحويلها من نزاع سياسي إلى ملف إداري وإنساني يقتصر على تحسين ظروف المعيشة لا على إنهاء الاحتلال.
رغم ذلك، فإن الموقف الشعبي العربي ظل ثابتاً في رفض التطبيع، مدفوعاً ليس فقط بعامل الارتباط العاطفي بالقضية الفلسطينية، بل بإدراك استراتيجي متنامٍ بأن التطبيع في غياب تسوية عادلة يشكل تهديداً مباشراً للمصالح الوطنية للدول العربية نفسها. فالعلاقات المفتوحة مع إسرائيل تمنحها أدوات اختراق ونفوذ داخل مؤسسات هذه الدول، يمكن استخدامها كوسيلة ضغط سياسي واقتصادي في المستقبل. كما أن الانخراط في منظومات أمنية واقتصادية تقودها إسرائيل يؤدي إلى تآكل السيادة الوطنية، وإلى إضعاف القدرات الذاتية للدول العربية في مجالات التكنولوجيا والطاقة والأمن السيبراني. من هنا، فإن رفض التطبيع في المرحلة الراهنة لا يمثل تشدداً أيديولوجياً، بل موقفاً عقلانياً يستند إلى إدراك أن تحقيق الأمن والاستقرار لا يمكن أن يتم عبر الخضوع لشروط القوة الإسرائيلية، بل عبر استعادة التوازن القائم على العدالة والندية.
في ضوء ذلك، يصبح من الضروري أن تصوغ الدول العربية رؤية بديلة لمسار التطبيع، تقوم على ثلاثة مرتكزات أساسية. أولها إعادة الاعتبار لمبدأ العدالة كأساس لأي سلام ممكن، فالتسويات التي تتجاهل الحقوق تنتهي دائماً إلى هشاشة واستمرار الصراع. وثانيها تطوير شبكات تعاون عربية–عربية حقيقية في مجالات الأمن والطاقة والتكنولوجيا، لتقليل الاعتماد على الولايات المتحدة. وثالثها استعادة البعد الشعبي والثقافي للقضية الفلسطينية بوصفه الضمانة الأعمق لاستمرار الوعي الجمعي العربي ورفض التطبيع المفروض من فوق.
إن ما يقدمه مسار التطبيع الحالي ليس سلاماً حقيقياً، بل صيغة من “السلام البارد” الذي يجمّد الصراع دون أن يحله، ويمنح إسرائيل شرعية إقليمية مقابل استمرار الاحتلال. السلام القائم على إنكار العدالة لا يمكن أن يزدهر، وأي علاقة طبيعية مع إسرائيل لا معنى لها في ظل استمرار الاستيطان والتمييز العنصري وتهويد القدس. وعليه، فإن التطبيع العربي–الإسرائيلي في صورته الراهنة يمثل مشروع إخضاع سياسي واقتصادي وثقافي أكثر منه مشروع سلام، ويعكس محاولة لإعادة إنتاج الهيمنة الإسرائيلية–الأميركية على المنطقة بوسائل ناعمة. إن رفض هذا المسار لا يعبر فقط عن وفاء لفلسطين، بل عن دفاع عن استقلال الإرادة العربية ذاتها، وعن حق المنطقة في بناء سلام عادل يقوم على الندية، لا على التبعية، وعلى العدالة، لا على القوة
                                 
            