حديقة قطع الرؤوس
بعد أن استمعنا إلى ما قاله بوريل مفوض الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وقسّم العالم قسمين أو فسطاطين: حدائق ديموقراطية أوروربية وأميركية، وغابات بربرية، تشمل بقية العالم على غرار التوارة شعب العالم المختار من اليهود، والباقي غوييم في خدمتهم، ومثل ذلك ما كتبه الأميركي هنتنغتون في “صراع الحضارات”.
فليستمع السيد بوريل إلينا ونحن نعيده إلى التاريخ وفق رغبته هو في “التأصيل الحضاري” لعالم الحدائق والغابات:
أولاً: ابتداء من تاريخ وعالم الأنجلو-سكسون إليكم شذرات من تاريخ “حدائقهم”:
1. الإنكليز: وقبل التوقف عند هنري الثامن الأكثر شهرة بينهم، فإن سلفه هنري السابع بدأ حكمه بالتخلص من ولي عهده وقطع رأسه، امتداداً إلى قطع الرؤوس المتبادل بين عائلتين يسري في عروقهما الدم الملكي، هما: يورك ولانكستر. بالعودة إلى هنري الثامن فقد أطاحت بلطاته رؤوس العشرات ممن حوله، بينهم اثنتان من زوجاته بالتتالي، الملكة آن بولين والملكة كاترين هوارد، في القرن السادس عشر، إضافة إلى كثيرين من رؤساء وأعضاء البرلمان والأساقفة الكاثوليك والنبلاء والكتاب والأقربين إلى العرش والمنافسة عليه. وقد توارث هذا التقليد في التاج البريطاني، الملكة ماري والملكة إليزابيث التي أمرت بقطع رأس ملكة إسكتلندا في القرن السادس عشر، وقد اختارت الملكة إليزابيث الثانية الراحلة اسم سلفتها المذكورة تيمناً بإنجازاتها وسيرتها.
والحق أن “رجال الثورة” البريطانية التي سبقت الثورة الفرنسية” لم يكونوا أقل اهتماماً بالبلطات وقطع الرؤوس، وباسم الرب، نفّذ قائد الثورة كروميل وثوار البرلمان الجديد حملة واسعة من قطع الرؤوس بدءاً برأس الملك شارلز الأول في منتصف القرن السابع عشر، قبل أن تخسر الثورة تلك الجولة ويتدحرج رأس كروميل نفسه على يد شارلز الثاني. وكما كانت حال الملكة الراحلة أخيراً إليزابيث اختار الملك الجديد لبريطانيا اسم شارلز (الثالث)، ولا ندري إن كان يقصد شارلز الأول أم الثاني.
وبالتأكيد إذا كانت الرؤوس المتدحرجة قد وصلت إلى التاج نفسه في بريطانيا، فهناك آلاف بل عشرات الآلاف من قادة الثورات التي اندلعت ضد الاستعمار البريطاني في أربع جهات الأرض، التي قام بها الهنود الحمر والأفارقة والآسيويون… والقائمة طويلة جداً جداً، إشارة إلى الحضارة الأنجلو-سكسونية ورسالتها التحديثية لأهل الغابات.
2. أما الجناح الأميركي من الإمبريالية الأنجلو-سكسونية فقد التصق اسمه بجزار أبقار كان يمد الجيش الأميركي باللحوم هو “الأنكل سام” الذي استوحى شكله المخرج الأميركي سكورسيزي في فيلمه “عصابات نيويورك” الذي يؤرخ عبر البلطات لمرحلة مهمة من التاريخ الأميركي الحديث، وهي مرحلة المافيات والصراع على المصارف وتجارة الأسلحة والويسكي التي تحولت لاحقاً إلى الاقتصاد الأميركي الذي نعرفه.
ومن المؤكد أن سكورسيزي اعتمد أيضاً على خلفية الثقافة الأميركية المبكرة التي رافقت الغزو الأبيض الوحشي لقبائل الغابات الشمالية من الهنود الحمر وكانت فروات رؤوس الهنود بعد سلخها وتجفيفها تعلق على مداخل المنازل. ولعل هذه الثقافة تحديداً، هي التي استدعت نيغروبونتي من جمعية الثقافة والجمجمة في جامعة ييل إلى قلم الاستخبارات في الخارجية الأميركية قبل إرساله إلى مواجهة ثورات العمال والفلاحين الفقراء ضد “جمهوريات الموز” العميلة في أميركا الوسطى وتحديداً بعد نجاح ثورة نيكاراغوا والخشية من تمددها إلى هندوراس والسلفادور، حيث أقام نيغروبونتي وأدار من هناك خليطاً من الثورات الملونة الليبرالية وفرق الموت الإجرامية (على غرار جبهة النصرة وداعش)، وذلك قبل أن يرسل إلى سوريا والعراق للتنسيق مع الدواعش والليبراليين معاً، ومما عرف عن الدبلوماسي المذكور اهتمامه بتدريب العملاء والمجرمين على القتل بالبلطات، وإثارة رعب الفلاحين عبر هذه الأساليب.
ثانياً: فرنسا، أيضاً بحسب كتاب جورج قرم (المسألة الدينية في القرن الواحد والعشرين) فقد عاشت فرنسا سلسلة من المذابح وقطع الرؤوس طوال القرون التي سبقت الثورة البرجوازية في القرن الثامن عشر. وبعد عقود من اختراع المقصلة وقطع الرؤوس في عهد ملوك فرنسا، فقد عاشت المقصلة عصرها الذهبي بعد الثورة البرجوازية وأول إعلان عالمي لحقوق الإنسان. وكانت البداية مع الملك لويس السادس عشر وزوجته ملكة البسكويت ماري أنطوانيت حين اقتادهما الثوار إلى ساحة المقصلة وقطع رأساهما، ولم يتوقع الفرنسيون أن حفلات قطع الرؤوس ستطال قادة الثورة الواحد تلو الآخر، وبينهم دانتون ودوربسبير.
وكغيرها من بلدان الاستعمار الأوروبي والأميركي المتوحش فقد واصلت فرنسا حروب الإبادة والمفاصل في كل مستعمراتها، وبخاصة الأفريقية والآسيوية.
ثالثاً: من تاريخ “الحدائق الحضارية” الأخرى في مقابل “الغابات”، تاريخ دول إسكندنافيا والبلطيق الأكثر حساسية لحقوق الإنسان التي تنحدر غالبيتها من الفايكنغ الغربيين والشرقيين (أسلاف الأوكرانيين).
وإذا كان الأنجلو-سكسون يكتفون بسلخ فروات رؤوس الهنود لغايات الرعب ودفع الهنود إلى أعماق الغابات، فثمة من يؤكد أن الفايكنغ (أسلاف السويد والدنمارك والنرويج) كانوا يخلطون فروات رؤوس خصومهم بفروات الحيوانات.
رابعاً: ومن باب الإنصاف البحثي، فإن أهل “الغابات” لم يكونوا ملائكة أيضاً، فمن لا يعرف عن الرؤوس المقطوعة المرسلة إلى خلفاء وملوك بني أمية والعباسيين والأتراك، ومنها رأس الحسين الذي أرسله القاتل عبيد الله بن زياد إلى سيده يزيد، ورأس زيد بن علي بن الحسين، ورأس مصعب المرسل إلى عبد الملك بن مروان، وقبلهم رأس يوحنا المعمدان الذي وضعته سالومي على طبق من ذهب ورقصت به أمام هيرودوس.
وبعدهم وفي أيامنا هذه لعبة قطع الرؤوس التي تمارسها “داعش” وأخواتها من الجماعات التكفيرية التي ولدت بأفكار نيغروبونتي رجل الاستخبارات الأميركية صاحب تجربة البلطات في أميركا اللاتينية.
ولا بأس في التذكير أيضاً بعدد آخر من الرؤوس، التي قطعت وأرسلت إلى وكلاء الإمبرياليين في الشرق الأوسط، ومنها رأس المناضل المغربي، المهدي بن بركة الذي اختطف وقتل في باريس وقطع رأسه على يد فريق من الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية والتونسية، وأوفقير وزير داخلية المغرب حينذاك، ومثله ابن شبه الجزيرة العربية ناصر السعيد.
أخيراً، ومن باب التنويع في ثقافة “الحديقة الأوروبية الأميركية” في مقابل “غابات العالم”، نذكر أنّه في مقابل بوابات زويلة ونيسابور فقد كانت ساحات باريس وجسر لندن مكاناً لاستعراض الرؤوس المقطوعة.
وفي مقابل العشماوي المصري، عرفت أوروبا عائلات متخصصة بقطع الرؤوس من أشهرها، عائلة سانسون الفرنسية التي توارثت هذه “المهنة الديمقراطية” كما توراثت أوروبا وواشنطن وجمهوريات إسكندنافيا جينات القتل، وآخرها دعم النازية في أوكرانيا.