تناقضات تهدد وحدة الأمة.. هل تنهي عودة “لولا” البولسونارية في البرازيل؟
![تناقضات تهدد وحدة الأمة.. هل تنهي عودة “لولا” البولسونارية في البرازيل؟](https://alentesharnewspaper.com/wp-content/uploads/2023/01/910df9e3-2294-4ebd-9557-2c72a4ebf3a3-e1674649697635-630x560.png)
الإنتشار العربي :تمثل البولسونارية في البرازيل انقلاباً سياسياً على القيم المؤسِّسة للجمهورية الحديثة، فهي تكاد تكون أقرب إلى الحكم الديكتاتوري الذي شهدته البلاد بين عامي 1964 و1985.
قبل ساعات من نهاية العام، خرج البرازيليون في ثيابهم البيض إلى شوارع السانتا كاترينا، إحدى ولايات الجنوب المذهلة، لاستقبال العام الجديد. الحشود البيضاء تسير في الشوارع المؤدية نحو شاطئ البحر في بونيرو، حيث يجري عرضٌ طويل للألعاب النارية. أسير مع “حجيج العيد”، أراقب البهجة التي تحملها هذه البداية الجديدة. نحث الخطى نحو الشاطئ المكتظّ، والذي سيضاء في منتصف الليل بوميض المفرقعات، وسيشهد على بداية جديدة للعشاق والأزواج والأصدقاء الذين يعتذرون عن خياناتهم السابقة أو يعدون بأيام مجيدة للحب. ينتهي العرض على وقع هتافات المحتفلين، فيقترب البعض ليغمس قدميه بماء البحر مصدر البركة، بينما يغادره آخرون مالئين الشوارع بنشوة العيد.
بعد نحو أسبوع على هذه الاحتفاليات كشفت البرازيل عن وجهٍ مغاير. اشتعل الشغب والغضب في قلب برازيليا. اقتحم أنصار الرئيس السابق جايير بولسونارو مؤسسات الحكومة العليا، في حادثة وصفها السياسيون بالعمل “الإرهابي”، وهو مصطلح مستجد في السياسة المحلية التي تشهد تحولات متسارعة في العقد الأخير.
يقول البعض هنا إنّ البرازيل ليست للمبتدئين، فمن الصعب اختزال المشهد في مصطلحات ضدية، ومن الصعب فهم التناقضات التي تشتهر بها البلاد من دون رؤية من الداخل، كما تكتب الباحثة الاجتماعية إليزابيث ماكينا، حيث زعيم الحزب الشيوعي يمتدح الرأسمالية، وحزب النساء مؤلف من الرجال، ومعدلات اللامساواة تنخفض وترتفع في الآن نفسه اعتماداً على كيفية قياسها. من السهل أن نرى في صعود بولسونارو واليمين والهجوم على مؤسسات الدولة عقب خسارة الانتخابات محاولة انقلاب أخرى في هذه القارة المضطربة، وحالة متوقعة في موجة يمينية أو “قصة موت معلن”، وفق تعبير الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، لكن ما تقوله العناوين لا يطابق الرواية دائماً.
يكمن التساؤل الأساسي في سبب صعود البولسونارية. لماذا منح 58 مليون برازيلي أصواتهم قبل نحو شهرين لمصلحة النقيب السابق في الجيش، ثم نائب الكونغرس اليميني بعد 4 أعوام من الحكم، أثبت فيها فشله في حماية مؤسسات الدولة من التَّأَكُّل وحماية المواطنين من السقوط مجدداً في الفقر، فضلاً عن فشله في تخفيف آثار الوباء الذي قضى على أكثر من نصف مليون شخص؟ لماذا يقبل الشعب البرازيلي رئيساً شعبوياً يدعو إلى التطرف في الخصومة؟
بولسونارو وصعود الشعبوية
تتغذى الشعبوية على الخوف من الآخر والرغبة في إيلاء الأمور لرجل يعيد الأمور إلى نصابها ويُنصفه. يمكن العثور على أوجه تشابه واضحة بين صعود دونالد ترامب إلى الرئاسة عام 2016 وصعود بولسونارو إليها عام 2018. الرجلان جاءا من خارج النخبة السياسية التقليدية، ورفعا، عقب تبرّم شعبي من الوضع القائم، عناوين “ثورية” تتحدى القيم الديمقراطية والليبرالية، وتعيد تأكيد “الأصالة الثقافية” في مقابل المستجدات والهوامش الاجتماعية والثقافية (المهاجرين، المثليين، الأقليات)، وتمنح فئات شعبية تشعر بالتهديد المتزايد نتيجة تبدل الوضع القائم فرصةً في التكتل والدفاع عما يعدّونه أمراً لا شك فيه وصورة للهوية الوطنية.
تمثل البولسونارية (المصطلح الشائع في البرازيل يعبّر أيّما تعبير عن تمركز اليمين حول شخص واحد، وطبع وجودها باسمه، وهي سمة بارزة للشعبوية) انقلاباً سياسياً على القيم المؤسِّسة للجمهورية الحديثة، فهي تكاد تكون أقرب إلى الحكم الديكتاتوري الذي شهدته البلاد بين عامي 1964 و1985. لا يظهر ذلك من خلال تقويض بولسونارو للمؤسسات الديمقراطية والعمل على التلاعب بالقضاء وإقصاء الخصوم فقط، بل في تأييده العلني للحكم العسكري فيما يُعرف بـ”سنوات القبضة الحديدية”، وإبداء رغبته في “العودة إلى ما كان قبل 40 أو 50 عاماً”، فضلاً عن دعوته أنصاره إلى استخدام السلاح في مواجهة أنصار حزب العمال.
من روسيف إلى دا سيلفا والانقلاب على اليسار
محاولة الانقلاب السياسي لم تبدأ الآن، كما أخبرنا المفكر البرازيلي الماركسي، وأستاذ علم الاجتماع في جامعة ريو دي جانيرو، أمير صادر، الذي يرى أن تقويض الحياة الديمقراطية استُهل بعزل الرئيسة اليسارية ديلما روسيف، في عام 2016، بتهمة التلاعب بالحسابات الحكومية لإخفاء العجز الكبير فيها، وتوقيع مراسيم تنص على نفقات غير مقررة في الاتفاق مع البرلمان، وهو “ما يعترف القضاء بأنّه لم يكن مبرراً كافياً لتعرضها للعزل”، ثم تكرر مع الزعيم العمالي لولا دا سيلفا الذي أُدخل السجن لمدة 18 شهراً قبيل خوضه الانتخابات الرئاسية عام 2018 بتهمة حصوله على شقة عند شاطئ البحر من شركة هندسية متورطة في قضية رشوة، وهي التهمة التي بُرّئ منها عام 2021.
هذا التلاعب القضائي والتهشيم المتعمّد لعهد اليسار، الذي حكم بصورة متواصلة نحو 13 عاماً، ونجح في إخراج قرابة 40 مليون برازيلي من دائرة الفقر، أدى إلى “انتخاب بولسونارو بطريقة غير قانونية على الإطلاق”، وفق ما يقول صادر.
بينما حاز لولا شعبيته وسمعته الدولية من خلال مكافحة الفقر، فإنّ بولسونارو حاز شعبيته من خلال ادعائه أنّه سيحارب فساد حكم اليسار وسيرسل المتورطين إلى السجون. في بلد يسجل نسبة عالية من الفساد، إدارياً ومالياً، ويواجه فضائح متكررة باستخدام النفوذ أو الرِّشى على مستويات عليا، صار اليسار “كبش المحرقة” الذي لصقت به كل مشاكل البلاد الاقتصادية. سَجن لولا وعزل اليسار عن الحياة السياسية صارا يعنيان لمؤيدي بولسونارو انفراجة مؤكدة. فلنضع اللصوص في السجون ولنحيَ برغد وسلام؛ “لولا لص… السجن مكانه الوحيد”، هكذا كان يهتف أنصار الرئيس السابق.
كراهية اليسار وشخصية لولا على الخصوص حشّدت أصوات البرازيليين إلى جانب بولسونارو، ولا تزال، كما يشرح للميادين نت أستاذ القانون الدولي في جامعة ساو باولو، سالم ناصر. برأيه، فإنّ شخصية لولا لا تروق للنخبة الاقتصادية البرازيلية، وخصوصاً تلك المتمركزة في جنوبي البلاد، فلولا رئيس من الشمال الفقير، صعد من خلال نشاطه النقابي من دون أن ينال شهادة جامعية، الأمر الذي يجعله في نظرهم أدنى مرتبة من انتخابه رئيساً. ولهذا، فإن لولا واجه انتقاماً وقوبل بغضب غير عقلاني متجذّر في الطبقية الاجتماعية والطبقية الاقتصادية ضد الرئيس اليساري، وهو أمر مشابه لما جرى في الولايات المتحدة، بحيث انتقم البيض من انتخاب رئيس أسود عبر تأييد ترامب وانتخابه، وفق ما يقول ناصر.
وعلى الرغم من نيل بولسونارو تأييداً من شرائح متعددة من الشعب، بمن في ذلك الفقراء، فإنّ تأييده كان أكثر وضوحاً بين السكان الأكثر ثراءً في البلاد، وخصوصاً أولئك الذين يستوطنون المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية، فضلاً عن البيض والجامعيين وسكان المدن واليهود والإنجيليين. يجد هؤلاء في بولسونارو الشخص الملائم لمواجهة اليسار الذي يوصف بالاشتراكي أو براعي فقراء الشمال على حساب أغنياء الجنوب، ويدان بسبب رفضه القيم المسيحية المحافظة، كقبوله المثلية والإجهاض.
شهدت البرازيل، في الأعوام الأخيرة، بعض التحولات الاقتصادية والثقافية التي ساهمت في نمو البولسونارية أيضاً. تراجُع التصنيع وتقدّم الإنتاج الزراعي خلال ولاية بولسونارو الأولى، ليشكّل ربع الناتج المحلي الإجمالي، ونحو 48% من الصادرات في النصف الأول من عام 2022، بالإضافة إلى توجّه حكومة بولسونارو نحو تسجيل ملكيات الأرض باسم المزارعين، ساهمت كلها في رفع شعبية اليمين في الريف البرازيلي المحافظ تقليدياً، وهو ما انعكس على الثقافة من خلال انتشار موسيقى الريف “السرتانيجو”. التحوّل الثاني الذي منح اليمين قوةً إضافية هو صعود الإنجيلية بصورة لافتة، خلال الأعوام الأخيرة، لتشكل أكثر من 30% من سكان البلاد بعد أن سجلت نحو 5% قبل 3 عقود فقط.
يشير هذا إلى تحوّل كبير في البلد الذي كان الكاثوليك يشكلون أكثر من 90% من سكانه عام 1970، وصاروا يشكلون اليوم نحو 51% فقط. ويوضح أن البولسونارية ظاهرة أكثر تركيباً مما هو ظاهرها، ففي وقت تتزايد شعبية الكنائس الإنجيلية، التي تقدّم دعماً اقتصادياً واجتماعياً إلى الفقراء من منتسبيها، تتزايد شعبية الأفكار اليمينية بين أتباع هذه الكنائس. هكذا ينمو اليمين وسط تحولات لا يسهل التنبؤ بها.
كشفت الأحداث الأخيرة وما قبلها أزمة عميقة في المجتمع البرازيلي. بلغ الاستقطاب السياسي حدوداً خطرة بلغت حد الطرد الوظيفي والتحريض على القتل أو الاعتصام أمام ثُكَن الجيش للتدخل لحسم الأمور ضد الرئيس المنتخب بطريقة دستورية (التشكيك في آلية الانتخاب وشرعيتها عند الخسارة هو مثال آخر على التهديد الذي تمثله الشعبوية للنظم الديمقراطية)، بينما بات من المألوف تداول الشائعات بصفتها حججاً مبرمة ضد الخصوم، كالقول إنّ لولا يريد نشر المثلية أو إغلاق الكنائس أو تنفيذ برنامج اشتراكي. وبينما تبدو الثقة محل شك بين المؤسسات البرازيلية، وهو ما ينعكس على إقالة قائد جيش البر خوليو سيزار دي أرودا مؤخراً بسبب “انهدام الثقة” عقب أحداث برازيليا، بتعبير القصر الرئاسي، فإنّ الثقة بين الشعب وممثليه لا تبدو في وضع أفضل.
خلال حديث إلى أحد مؤيدي بولسونارو، وهو مواطن من الجنوب ذو أصول أوروبية وينتمي إلى الطبقة الوسطى، قال إنّ الجيش أخطأ في عدم تصفية اليسار في أعوام حكمه، ولم يقتل ما يكفي منهم. قد يكون من الممكن الحديث عن نهاية بولسونارو السياسية عقب خسارته الانتخابات. لكن، كيف يمكن الحديث عن نهاية البولسونارية في بلد تتسع فيه التناقضات؟