ترامب يقاضي هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” بتهمة التشهير ويطالب بتعويضات تصل الى 10 مليارات دولار.. لهذه الأسباب الموثقة لا نتعاطف مع الطرفين
عبد الباري عطوان
عبد الباري عطوان
من سخريات القدر ان يتقدم دونالد ترامب الذي يعتبر من أكبر الرؤساء الأمريكيين عنصرية وقمعا لحرية التعبير وحقوق الانسان، برفع دعوى لمقاضاة هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بتهمة التشهير بعد “تحريف” تصريحات له في احد الافلام الوثائقية التي بثتها، وصورته كمحرض لأنصاره على اقتحام “الكونغرس” احتجاجا على سقوطه وفوز خصمه جو بايدن بالانتخابات قبل الأخيرة.
ترامب رفض اعتذارا من قيادة الهيئة، والحكومة البريطانية التي تشرف على تمويلها وادارتها، وطالب بتعويضات مالية تصل الى 10 مليارات دولار، وكلف مكتب المحاماة التابع له ببدء الإجراءات القانونية اليوم الثلاثاء، مثلما اعلن المتحدث باسمه.
كنا نتمنى ان نقف في خندق هيئة الإذاعة البريطانية في مواجهة هذا الابتزاز من رئيس امريكي مدان بالفساد الأخلاقي، وقمع الحريات، وخاصة حرية التعبير في أمريكا والعالم، ولكن الـ”بي بي سي” سقطت في امتحان حرية التعبير عشرات المرات، وخاصة انحيازها الواضح للسردية الإسرائيلية في الصراع العربي الصهيوني، اثناء حرب الإبادة والتجويع الإسرائيلية في قطاع غزة، نقولها وفي الحلق مرارة، خاصة أن كاتب هذه السطور كان مشاركا في معظم برامجها باللغتين الإنكليزية والعربية قبل إبعاده منها بقرار إسرائيلي.
لنبدأ أولا بالرئيس ترامب، الذي يدعي البراءة، واحترام حرية التعبير، ويذهب الى القضاء لمحاكمة المحطة التلفزيونية البريطانية، ويكفي الإشارة الى ملفين أساسيين يدينانه بالوثائق:
الملف الأول: أصدرت منظمة “فري برس” الامريكية المعنية بالدفاع عن الحريات الإعلامية تقريرا جديدا قبل يومين وثقت فيه الحرب الممنهجة التي يشنها ترامب على حرية التعبير في بلاده والعالم منذ عودته الى البيت الأبيض، استندت فيه المنظمة الى 500 واقعة شملت تهديدات لفظية بذيئة في بعض الأحيان، واوامر وتصريحات صادرة عنه والبيت الأبيض ضد منتقدي سياساته، وحذف محتوى من مواقع حكومية، وازالة معلومات تاريخية.
وأكدت المنظمة ان ترامب استهدف صحافيين وباحثين أجانب، بسبب انتقادهم السياسات الامريكية، وسواء المتعلقة بالدعم العسكري لإسرائيل في حربها في غزة، او سياسات الترحيل الجماعي القصرية للمهاجرين في أمريكا، ويكفي الإشارة الى انه منع وكالة “أسوشيتد برس” الامريكية من دخول المكتب البيضاوي بسبب رفضها استخدام تسمية “خليج أمريكا” بدلا من “خليج المكسيك” الاسم الأصلي، ورفع ترامب دعوى قضائية ضد صحيفة “وول تسريت جورنال” وطالبها بتعويض يصل الى 10 مليارات دولار لانها نشرت تقريرا عن علاقته بجيفري ابستين المشهور بتقديم فتيات قاصرات لضيوفه من الأثرياء ورجال الحكم، سواء كانوا أمريكيين او أجانب، وهناك صور وافلام حية تؤكد هذه العلاقة المشبوهة.
الملف الثاني: يتضمن شقين أساسيين:
ـ الأول: ترديد ترامب الاكاذيب الإسرائيلية وتبنيها حول هجوم “طوفان الأقصى”، وخاصة اكذوبة اقدام افراد من المهاجمين من رجال حماس بحرق الأطفال الإسرائيليين في الافران، والاعتداء جنسيا على فتيات وسيدات، اسرائيليات، والأخطر من ذلك انه دعم حرب الإبادة الإسرائيلية في القطاع، ورفض ان يعترف بحصولها، وكذلك حرب التجويع حتى الموت، وزود إسرائيل بالقنابل التي يصل وزنها أكثر من الفي رطل لاستخدامها في تدمير كل العمارات والمنازل في القطاع.
ـ والثاني: شن ترامب حملة عنصرية غير مسبوقة ضد الاشقاء الصوماليين، والنائبة الهان عمر، عضوة الكونغرس الأمريكي، حيث توعد بترحليهم، ووصفهم بـ”القمامة”، وقال ان بلدهم (الصومال) الأسوأ في العالم، وأشار الى ان دولة الصومال لا تملك جيشا، ولا شرطة، ولا تعرف معنى كلمة برلمان، وأهلها يقتلون بعضهم بعضا، وينسى هذا الغبي ان عمر الصومال أكثر من ثمانية آلاف عام بالمقارنة مع دولته امريكا التي قامت على جثامين وسفك دماء اكثر من 100 مليون هندي احمر من سكان أمريكا الأصليين، ولا يزيد عمر أمريكا عن 300 عام، واحسنت السيدة الهان عمر التي طالب ترامب بسحب جنسيتها وطردها، بوصفه انه “عار على أمريكا والإنسانية”، فحرية التعبير بالنسبة اليه هي الشتائم والسباب للمهاجرين الضعفاء، واهل الصومال الذين انجبوا الهان عمر التي تشكل عقدة نفسيه له.
اما اذا انتقلنا الى هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” فتواجه مئات الاتهامات بقمع حرية التعبير، والانحياز الى اسرائيل في تغطيتها للصراع العربي الإسرائيلي، وحرب الإبادة في قطاع غزة، والرضوخ لمطالب، بل أوامر اللوبي الصهيوني في بريطانيا، والحكومة الإسرائيلية في فلسطين المحتلة.
هيئة الـ”بي بي سي” الغت فيلما وثائقيا عن المجازر في قطاع غزة، رغم مطالبة الشرفاء داخلها بضرورة بثه، وأبرزهم غاري لينكر أحد أشهر مقدمي البرامج الرياضة في العالم، الذي جرى إبعاده من المحطة بعد تقديم برنامجه “مباراة اليوم” لأكثر من 26 عاما، وكان من أنجح البرامج في المحطة وأكثرها شعبية، لانه انحاز لضميره الإنساني، ووقف في خندق أطفال القطاع الذين قتلت إسرائيل 40 الفا منهم.
لا يمكن ان ننسى الشكاوى الداخلية من قبل صحافيين عرب وفلسطينيين تحديدا من المضايقات التي تعرضوا لها من إدارة الهيئة بسبب تدخلات النافذين من اللوبي الصهيوني، داخل الهيئة وخارجها، ووقع 111 صحافيا في الهيئة رسالة تتهم إدارة “بي بي سي” بالتحيز لإسرائيل، والخوف من انتقادات وتدخلات حكومتها، وجرى فصل العديد من الصحافيين العرب، ومنع أخرين من الظهور على شاشاتها بحجة معاداة السامية، واحداهم صحافية شابة طردت من عملها في المحطة بسبب تغريدة نشرتها على وسائل التواصل الاجتماعي تنتقد فيها إسرائيل وجرائمها، عندما كانت في سن المراهقة، وقبل عملها في الهيئة بسنوات، كما تقدمت 200 شخصية بارزة في بريطانيا بينهم نواب ولوردات واكاديميين بعريضة احتجاج ضد احد أعضاء مجلس الإدارة معروف بصهيونيته وعلاقاته مع إسرائيل، وطالبوا بطرده لفساده، ونجحوا في ذلك نهاية المطاف.
هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) خسرت ما تبقى من مصداقيتها، وهو قليل على أي حال، بسبب رضوخها للكثير من الاملاءات الإسرائيلية للتحكم في تغطيتها العربية والعالمية للأحداث، ومن المؤسف ان رفع دعوة قضائية ضدها جاء من أكثر الرؤساء الأمريكيين فسادا وعنصرية وغباء، أي ترامب، وليس من دول العالم الثالث في افريقيا وآسيا، بل والشعب البريطاني نفسه المتضرر من إنحيازاتها المخجلة لدولة الاحتلال الإسرائيلي، وبعض الاحداث والحروب العالمية الأخرى.
لعلها لعنة دماء الأبرياء الأطفال وضحايا حرب الإبادة والتطهير العرقي الإسرائيلية في قطاع غزة التي تطارد حاليا هذه المحطة، وكل المحطات الأوروبية والأمريكية التي سقطت في مستنقع الانحياز للقاتل والجزار الإسرائيلي، وخانوا المهنة واخلاقياتها، ومعاييرها، وحرية التعبير أحد درر تاج القيم الغربية المفترضة.
