بشير عمري: أي مرتكز لـ”التعريب” في جيله التعددي الجديد؟
الإنتشار العربي :بشير عمري
مر مؤخرا اليوم العالمي للغة العربية والعرب كلها لاهية في كأس العالم لا تدري عن العالمية سوى هوية القدم وكرتها التي حبست الانفاس والنفائس واحتكرت القلوب والافئدة واستغلتها جماعات عدة للترويج لأفكارها ومشروعها للإنسان العولمي الخالي من كل قيم الوجود التي أنيطت به مذ أستخلف على هاته البسيطة.
وفي الجزائر سعت “الطائفة الناجية” من وهدة التلهية المونديالية من نخبة العقل إلى محاولة موضعة قضية اللغة العربية واللغات عموما في المشروع الوطني حيث تزدحم القضايا ويُتلاعب بها في معادلة الصراع السياسي دون رأفة بالمعرفة ولا وجل من قداسة التاريخ، فعن أي لغة عربية يمكن الحديث في الجزائر في خضم حالة الاحتراب السياسي المتقلب بين السخونة البرودة الذي لا يزال ممتدا مذ افتتح ما يسمى عهد التعددية؟ وما هي مشاريع حملة التعريب ومشاربهم أمس واليوم وغدا؟
في دردشة لي مع الكاتب الكبير الجامعي والباحث العلمي الدكتور نذير طيار، سألته إن كان بالإمكان اعتبار رحيل الرئيس التاريخي للجمعية الوطنية للدفاع عن اللغة العربية الدكتور عثمان سعيدي مؤخرا هو في حد ذاته إيذان بفتح عهد جديد لقضية التعريب الشائكة في الجزائر؟ أجابني بأنه من المفترض أن يكون الأمر كذلك بيد أن تحفظ إلى حد كبير في مسألة إمكانية رؤية قفزة للمشروع التعريبي بالنظر لغياب جيل عمل باستراتيجية جديدة تقفز عن النطاق النضالي الذي اتسمت به تجربة جيل الدكتور عثمان، رأي في نظرنا يبرز مدى عمق الاشكال الثقافي في الجزائر الملاصق للإشكال السياسي ذي النزاعات المستمرة حول السلط، كل السلط، السياسية والثقافية والاقتصادية، في ظل غياب مجتمع مدني قوي ومنظم وتواصل أزمة الحكم التي ظهرت عشية الاستقلال وتتواصل حتى اليوم متمظهرة في غياب مشروع ثقافي للأمة.
فجيل التعريب التعددي الأول الذي بادر إلى إنشاء جمعية وطنية للدفاع عن اللغة العربية في خضم انفتاح صادم ومصادم تم نعته كما أسلفنا بالاشارة “عهد التعددية” أين أطلق كلٌ لنفسه لعنان للطعن في مبادئ مخالفيه وهو ما ستستغله الجماعات المناوئة للتغيير في الحكم للإجهاز على التجربة بحجة وضع حد للفوضى المهددة للوحدة الوطنية – هذا الجيل – لم يتكمن من مبارحة النطاق النضالي “الصوتي” الضيق والقصير، لأن مرتكز الرؤية لديه في التعريب انحصر وانحسر معا في مسألة الهوية وعراكاتها التي دُشنت بقوة في بدية عصر التعددية والتعدي بين شتى عناصر المعارضة على بعضها البعض في مشارعها الثقافية، فمثلما ظل هذا الجيل يعمل إبان فترة الأحادية داخل هياكل الحزب الواحد من سعي لفرض توصيات المؤتمرات الوطنية الداعية إلى “التعريب”، نراه عاود المسلكية في عهد التعددية لكن في قلب معركة أخرى سميت بصراع الهوية بعد أن خرجت تيارات واتجاهات أخرى إلى العلن تطرح ما تراه حق في النسيج الاجتماعي والثقافي والاثني الوطني المتعدد وهو ما اعتبرته “جمعية الدفاع عن اللغة العربية” تعد عن “الهوية الوطنية” الواحدة وهكذا تطورت مسألة الصراع لدى هذا الجيل من التعريب إلى الهوية التي صارت في قلب رحى معركة التعددية فاقت بل زاحمت المطلب السياسي الساعي من وقتها للتغيير على مستوى السلطة وانبثاق نظام حكم جديد مصدره الشعب ومسلكه الديمقراطية.
وهكذا استمرت مأساة القضية اللغوية في الجزائر بسبب الحسابات السياسية، لتتحول من مشروع اغتناء وقوة كما يحاول العديد من المثقفين التنظيريين والأكاديميين التأكيد عليه كميزة حضارية ومعرفية للمجتمع الجزائري خصوصا والمغاربي بوجه أعم، إلى مشروع افلاس ألسني وارتكاس معرفي، وسيظل كذلك لأية لغة استدعيت على شطرنج صراعات المصالح والنفوذ والبقاء في السلطة في الجزائر.
لقد اتضح بأكثر ما يمكن من وضوح بأن المعربين الأوائل ممن حاولوا إصلاح الأمر من الداخل أي في عمق بيت “الحكم” معتقدين بأن العطب والعطل ينحسر هناك في مواقف أفراد أو على الأكثر جماعات هناك ترفض التعريب لارتباطها الوجداني والثقافي بفرنسا، كانوا على خطأ كبير بعد أن تبين بأن بنية السلطة ذاتها قائمة على حيوية مسألة تناثر وتناشز عناصر الصراع في المجتمع لأن في ذلك الشرط الذهبي لبقائها وصية على المجتمع في أمنه الثقافي تماما مثلما تسوقه وتسوق له من كونها الوصية على أمنه الاجتماعي السياسي.
فقضية “المعربين” وجدت والحال هذه تنتقل وتتمرحل في مطلبيتها النضالية من التعريب إلى الدفاع عن اللغة العربية أي من الهجوم في فترة الأحادية حيث كان التستر على صراعات ومخاضات المجتمع في مكوناته إلى الدفاع، وهي ارتكاسة استراتيجية كونها فتحت فيما بعد لمرحلة ثالثة من عمر قضية المعربين هؤلاء وهي مرحلة الدفاع عن “الهوية” بكاملها ومكنونها من عناصر أخرى وهنا سقطت كل الاتجاهات والتيارات في الفخ المنصوب للتعددية وضاعت قضايا الجميع ولأوضح من ذلك في المسارعة العجيبة الأخيرة لأنجلزة المدرسة الجزائرية بدون بيداغوجية أنجلوفونية للمجتمع الجزائري كما تشير إلى ضرورته أطراف عارفة.
وفي سياق الإشارة إلى الإخفاق “التعريبي” للجيل الأول الذي انقضى برحيل الدكتور عثمان سعيدي، يمكن الحديث عن طفرات نجاح جزئي فردي للبعض منه ممن أدرك بأن الدفاع عن اللغة الغربية سياسيا داخل عملية سياسية مغلقة لن يجدي نفعا لا للعروبيين ولا للتعربيين ولا للبربريين أو الفرنكوفنيين أو أي اتجاه ثقافي أو ألسني في الجزائر طالما بقي الأمر خارج والوعي والإرادة والسيادة الشعبية الحقيقية ومن هؤلاء مثلا كما ذكر لي الأستاذ نذير طيار الراحل الدكتور الطبيب سعيد شيبان الذي وظف معارفه العميقة في الحقول الأكاديمية من أجل تعريب الطب الذي يعتبر من مجالات العلوم الأولى للحضارة العربية الإسلامية وهو بذلك يمتلك القواعد المتجذرة في التاريخ والحضارة ولا يحتاج الأمر لديه سوى من يرفع هاته القواعد وهو ما يغيب عن فكر “العروبيين” وبعض العربوفونيين الذين بتحسسهم المفرط لمسألة الهوية وعراكاتها الصحيح منها والمفتعل، تحولوا إلى “عربوفيليين” وصاروا بالتالي عنصر أزمة وليس عنصر حل وهم يحسبون بتفكيرهم ذلك أنهم باللغة العربية والوطن يحسنون صنعا.
كاتب جزائري