النفط في جوهر التصعيد الأميركي العدواني على فنزويلا

 النفط في جوهر التصعيد الأميركي العدواني على فنزويلا

واشنطن – سعيد عريقات 

تبدو التطورات المتسارعة بين الولايات المتحدة وفنزويلا جزءاً من مشهد أكبر يتجاوز المناوشات البحرية أو التصريحات السياسية المتبادلة. فالهجمات المتكررة على القوارب قبالة السواحل الفنزويلية، والإغلاق الجزئي أو الكلي للمجال الجوي فوق البلاد، ونشر حاملة الطائرات الأميركية العملاقة “يو إس إس فورد” (التي تحمل على ظهرها، 80 مقاتلة إف -35 F-35 ) في البحر الكاريبي، ليست أحداثاً معزولة، بل تشكّل حلقات متصلة في سلسلة قديمة من التوترات تتمحور حول عنصر واحد واضح: النفط.

منذ نشوء قطاع النفط الفنزويلي في مطلع القرن العشرين، لعبت الشركات النفطية الأميركية دوراً محورياً في استغلال الثروة الهائلة التي تختزنها الأرض الفنزويلية. فعلى مدى عقود طويلة، تمتعت تلك الشركات بامتيازات واسعة، واستفادت من ضرائب منخفضة، وسياسات سمحت لها بجني أرباح طائلة، في ظل غياب شبه كامل للرقابة الوطنية. ولم يبدأ التغيير إلا في سبعينيات القرن الماضي، عندما اتخذت كاراكاس قرارها التاريخي بتأميم قطاع النفط. هذا التحول الاستراتيجي، الذي تعزز لاحقاً مع سياسات هوغو تشافيز، شكّل نقطة انعطاف جوهرية في العلاقات بين الطرفين، وأطلق مساراً جديداً من الشكوك والتوتر.

اليوم، ومع تجدد التوترات بشكل حاد، يرى كثيرون أن الولايات المتحدة تحاول استعادة تأثيرها، أو على الأقل إعادة صياغة الواقع النفطي في فنزويلا بما يخدم مصالحها الجيوسياسية. كاراكاس بدورها توجه رسالة سياسية تُظهر استعدادها للمواجهة، وقدرتها على التحكم في واحد من أهم عناصر السيادة. وردّ واشنطن عبر تعزيز وجودها البحري يحمل أيضاً رسائل واضحة مفادها أن الولايات المتحدة لن تترك المجال الجيوسياسي في الكاريبي مفتوحاً أمام خصومها أو منافسيها.

اللافت أن هذا المشهد يعيد إلى الأذهان ما جرى في عام 2003 عندما قاد الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش عملية غزو العراق تحت ذريعة امتلاك أسلحة دمار شامل، وهي الذريعة التي ثبت لاحقاً عدم صحتها. يومها، كان النفط حاضراً في خلفية المشهد، سواء أُعلن ذلك أم لا. واليوم، يرى عدد من المحللين أن واشنطن تتصرف بروح مشابهة: استخدام الضغط العسكري والسياسي لتأمين مصادر الطاقة أو التأثير على الدول المالكة لها، حتى لو لم يكن الحديث يدور عن غزو مباشر أو حرب شاملة.

في الحالة الفنزويلية، تتداخل عناصر أخرى مع البعد النفطي. فالعقوبات الأميركية المتراكمة منذ سنوات لم تُسقط النظام، بل دفعت فنزويلا إلى أحضان روسيا والصين وإيران. وهذه القوى الثلاث وجدت في فنزويلا فرصة لتعزيز حضورها داخل منطقة تعتبرها واشنطن تقليدياً ضمن نطاق نفوذها المباشر. ومع الدعم التقني والاستثماري الذي تقدمه هذه الدول، فقدت واشنطن جزءاً مهماً من قدرتها على الضغط الفعّال، الأمر الذي دفعها إلى توظيف أدوات أكثر حدة، من بينها الحضور العسكري المتزايد حول السواحل الفنزويلية.

ولا يبدو أن الولايات المتحدة تسعى إلى مواجهة عسكرية مباشرة، لكنها تعمل على صياغة ما يمكن وصفه بـ”استراتيجية الضغط المحسوب”؛ أي مزيج من الإجراءات البحرية، والتضييق السياسي، والعقوبات الاقتصادية، بهدف دفع كاراكاس إلى تغيير سلوكها أو القبول بإعادة هيكلة القطاع النفطي بما يتلاءم مع مصالح واشنطن. في المقابل، تدرك القيادة الفنزويلية أن النفط هو ورقتها الأقوى، وأن التنازل عنه يعني خسارة مصدر القوة الوحيد الذي يمنحها القدرة على الصمود في وجه الضغوط الخارجية

ويأتي التصعيد في لحظة تشهد فيها خريطة الطاقة العالمية تحولات كبرى. فمع بحث الولايات المتحدة عن بدائل للنفط الروسي بعد حرب أوكرانيا، ومع عودة الطلب العالمي على النفط الثقيل، تستعيد فنزويلا أهميتها الاستراتيجية. كما أن دخول الصين بقوة إلى قطاع الطاقة في أميركا اللاتينية يشكل تحدياً إضافياً لواشنطن، ويدفعها للتشدد في ملفات كانت تتعامل معها سابقاً بمرونة نسبية.

وعلى الرغم من العقوبات والانهيار الاقتصادي، ما تزال لدى فنزويلا ورقة بالغة الأهمية: احتياطي نفطي يُعدّ الأكبر في العالم. وقد أدركت كاراكاس أن الحفاظ على هذا المورد والسيطرة عليه يمنحها قدرة على المناورة السياسية، لذلك جاء قرار إغلاق المجال الجوي كإشارة إلى أن البلاد لن تسمح بتحركات يُنظر إليها كتهديد لسيادتها أو لقطاعها النفطي.

التشابه بين ما يجري اليوم وما حدث في العراق عام 2003 قد يكون لافتاً، لكنه لا يعني بالضرورة أننا أمام نسخة جديدة من ذلك السيناريو. فالولايات المتحدة تواجه اليوم قيوداً داخلية وخارجية تجعل خيار الحرب المباشرة غير مطروح. لكن ذلك لا يلغي احتمال استمرار سياسة الضغط التدريجي، التي تهدف إلى إنهاك النظام وإضعافه دون الانجرار إلى مواجهة مفتوحة.

Al Enteshar Newspaper

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *