المتوكل طه: رواية “تعويذة الجليلة” للأسير كميل أبو حنيش؛ الموقف الجذري في المسيرة الممتدة

 المتوكل طه: رواية “تعويذة الجليلة” للأسير كميل أبو حنيش؛ الموقف الجذري في المسيرة الممتدة

الإنتشار العربي :المتوكل طه
يبدو أن الأسير الروائي كميل أبو حنيش قدَّم لنا بيدراً روائياً خصباً عبر روايته “تعويذة الجليلة”. إذ لا شيء سوى فلسطين داخل الكاتب، أو أننا تعرّفنا أكثر على قضيتنا من خلال كتابه. لم يكتب لأجلنا ضد نفسه، بل كان شاهد حقٍّ على ما جرى، وقد ارتكز على الحقائق ووقف على شرفة البلاد وأحضر إلينا النجوم، أما سارق الأرض فسيبقى سارقاً لأن الخاتم المسروق لا يجعل من السارق ملكاً.
ويتميز الكاتب بأنه مثَّل ضميراً لم يعد له مكانٌ في هذا الزمن، حتى جعل القضية الفلسطينية يومنا الثامن وفصلنا الخامس. وأكَّد على مقولة سائدة بأن: الإنسان ما يكتب وليس ما يكون، وأن فلسطين مثل الجنَّة تدخلها فلا تموت.
وكميل أبو حنيش القابع في الأسر منذ عقدين أكَّد على أن الخير والشر خطّان لن يلتقيا، ولم يقبل بالفكرة إذا كانت خاطئة، لأنّ الإيمان حسب الشاعر “ألان بوسكيه” مسألة نظام وليس حرية، كما أن الوجود الذي لا ثمن له هو باهظ بلا حدود.
ومع إيماني بالقول القائل: كل تفسير للفن هو تفسير خاطئ، إلا أنني أراني منغمساً في هذه الرواية التي تمثِّلني بجدارة، على اعتبار أن لكل صفحة عدداً كبيراً من المؤلِّفين أهمهم من قرأها! كما يرى “بوسكيه” أيضاً.
وقد أبدأ بالقول: إن الدهشة قد تأخذك من عدم الفهم، أو أن الكتابة نَسج أعذار كما يرى “هنري ميشو” لكنني أرى امرأة مثل وردة كونيّة، هي الجليلة. أخذتني معها، بجرأة، مثل الموسيقى، لأرى الحكاية من أوَّلِها إلى آخرها، مثل راهبٍ يعود إلى ديره، على الرغم من أنه لم يخرج منه!
الرواية كتبت صاحبها، والرواية أيضاً هي استعادة لمعنى الرواية، خاصةً إذا كان الكاتب محرِّضاً ولم ينسَ افتراض الضريبة التي ما فتئ يدفعها منذ ربع قرن وأكثر. وها هو قد تزوَّج أحلامَه التي تمخضت عن آدميٍّ لن يقبل التدجين. وعزاء الراوي أن الكلمة المسؤولة هي أرضه وسماؤه وأشجاره التي في يده، ولا يخاف الموت بقدر خوفه من طعنات الحياة، وفي تمرُّدِه التقى الحق ، والنقاء في الفوضى والمرايا الزائفة.
إن رواية “تعويذة الجليلة” قد ولدت حبلى بالأمل وبجرعة الإصرار والثبات، وهي تنتصبُ مثل ضوء مشعّ من المصاطب الخضراء الدافئة، ومن الصور الدامية المكررة التي تعيد رسم البلاد في لوحةٍ أكثر بهاءً وشجاعة وحرية.
لقد حرّرنا الكاتب من الأحزان الساذجة والانكسارات، وزَّرع أغصانا تمشي إلى البحر.. كل ذلك بجهدٍ فنيٍّ استطاع أن يعزِّز الخيال والمعنى، وأثبت أن الفن قوَّة محرِّرة ورغبة حارقة في استحداث أنماط جَمالية غير معهودة، فمن الممتع أكثر أن يكون المرء فناناً بدلاً من أن يكون فيلسوفاً، والكتابة في عمقها هي حرية وعصيان ويجب أن تحدث أثراً وتجعلك تشعر بشعور مختلف، وأن تمارس النقد العارف تجاه كل ما هو غرائزي ويتمثل بأشكال فاشية.. كما ترى إيرس ماردوك.
وألحظ أيضاً أن الكاتب كميل أبو حنيش، باعتباره مثقفاً مشتبكاً بالفعل، قد تصدَّى لغير مسألة جانبية مهمة؛ أوَّلها: الوعي ودور الأُسْرة. إذ إن الوعي لا يقوم على مجموعة مسلّماتٍ عقليةٍ فقط، ولا يقوم على مجرد مقدماتٍ منطقيةٍ فحسب، الوعي نشاطٌ متعدِّدُ الوجوه، يتعرَّض لتأثيراتٍ مختلفةٍ من كل الجهات والأطراف، ولهذا فإن الوعي ليس نشاطاً عقليّاً صرفاً أو “نظيفاً”، الوعي مؤسَّسٌ على “تفاعل” حيوي مع المحيط، العقل فيه جزءٌ من عدة أجزاء. ومن هنا، فإن الحيوية المؤسَّسة على الوعي، تتأسَّس، أيضاً، على مؤثرات لا عقلية ولا منطقية، أو لا يدخل المنطق في تمحيص صِدْقِها من كَذِبِها، أو حقيقتها من عدمها.
هل أُخْرِجُ الهوية هنا من حدود الوعي بها إلى حدود قدريَّتِها؟! قد يكون هذا صحيحاً إلى حدٍّ ما في حالة تفسير الانتماءات القومية والدينية والعقائدية.
الفِكْر لا يكفي لتفسير ذواتنا، كما أن المنطق لا يكفي لتفسير مشاعرنا. هناك ما هو فوق الفكر والمنطق في تحديد اتجاهات السلوك وأولويات القيَم.
ربما تكون “الأُسرة” أولى المؤثرات الأقوى والأكثر تأثيراً علينا طيلة حياتنا في تحديد مَن نحن، إن بقاءنا مدةً تزيد على اثني عشر عاماً نتلقّى القيم ودروس السلوك والعادات واللغة من أهلنا تشكِّل الفترة الأهم في تخصيب أرواحنا وترهيف وجداننا وتكوين منظومة الصواب والخطأ في أعماقنا، وكذلك في تأثيث وتضخيم ما يسميه فرويد بـ”الأنا الأعلى” أو ما يسمّيه القرآن الكريم “النفس اللوّامة” تلك النفس التي تؤنّبنا على أغلاطنا وترضى عن صوابنا – وفي هذا الصدد كتب الإمام الغزالي أروع تحليلٍ حول نوازع هذه النفس بما يسبق فرويد وغيره بمئات السنين.
“الأُسرة” التي يطلق عليها علماء الاجتماع أنها الضرورة لأساس المجتمعات؛ تكتسب حقاً تلك الأهمية في تحديد القيمة وتحديد السلوك المرتبط بهذه القيمة، الأُسرة لا تعلّم السلوك فقط وإنما تعلِّم القيمة المرتبطة به، ولكل قيمة مثال، هذا المثال -شئنا أم أبينا- منتزعٌ من ثقافة المكان ذاته. المكان -بما هو قديمٌ ووعاءٌ للنشاط البشريّ- يتحوَّل شيئاً فشيئاً إلى شيءٍ مقدَّسٍ ترتبط به حكايات وروايات خاصة ترفعه من مجرد موجود محسوس إلى شيءٍ آخر لا علاقة له بالحسّيّة. يتحوَّل المكان من مجرد وعاءٍ إلى قيمةٍ بحدِّ ذاته، له قدرة التأثير على الجسد والوجدان، أيضاً. وقد قام مفكِّرون عرب وأجانب بدراسة هذا التأثير المكاني على النشاط البشري وادَّعوا وجود علاقة كبيرة بين الأمرين، بما دُعيَ “بالمكانية” أو “الجوّانيّة”، ولهذا، فإن المكان يتحوّل هو الآخر إلى خيطٍ في نسيج تعريف الأنا الخاصة والأنا الجمعية، باعتبار أن هذا المكان يتشكَّل من مجموعةٍ من المُثُل والحكايات والأساطير يُطْلَق عليها اسم ثقافة المكان. ثقافة المكان ليست ميكانيكية أو منفصلة، بل هي متَّصِلَة وتتطوَّر ببطءٍ، ولكنها تتحوَّل فعلاً إلى أشياء مقدَّسَة، ومن هنا قوتها وصعوبة الخلاص منها أو عبادتها وتأليهها.
وقوّة المكان تأتي من زمانيَّتِه، فالمكان قديم، وكل قديم طيِّب وقابل للتأويل، وسهل العبارة، أيضاً.
نحن نحتاج القديم لفَهْم الجديد، ونحتاج القديم لتعريف حاضرنا، ونحتاج القديم باعتباره خبرةً ضروريةً، ونحتاج القديم باعتبا

Editor Editor

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *