العازف والفئران.. أمة تمشي الى النهر

 العازف والفئران.. أمة تمشي الى النهر

كمال خلف

كمال خلف
تتحدث الأسطورة عن بلدة ريفية في المانيا اسمها ” هاملن” وقد كانت الفئران تملؤها، وقد وجد سكان القرية ان الحل للتخلص من الفئران بطلب مساعدة من عازف المزمار الذي كان يعزف نغمات معينة تجذب الفئران وتجعلها تتبع العازف. فجرها صوت المزمار وراءه الى خارج البلدة لتهوي في النهر الجارف وهي بحالة طرب وبكامل ارادتها.
هذه ليست اسطورة من وحي الخيال، بل انها حدثت مرارا وتكرارا في تاريخنا العربي، وعلى جغرافيتنا، ومازالت تحدث يوميا امام عيوننا. وسوف اقص عليكم وقائع قصص حدثت وتحدث حقيقة وسجلها المؤرخ في ازمنة مختلفة وهو جالس على التل ينظر الى مئات الآلاف يقفزون الى النهر فرحين بموتهم، ومطروبين بلحن المزمار حتى الرمق الأخير من الحياة.
تذكرون والي بلاد الشام احمد جمال باشا الذي اطلقنا عليه لقب السفاح عندما اعدم نخبة من رجال السياسية العرب في دمشق وعاليه عام ١٩١٦ بتهمة التخابر مع فرنسا وبريطانيا ضد الدولة العثمانية. كانت فعلة جمال جريمة شنيعة بلا ريب. لكننا وبعد أربعة أعوام فقط على الحادثة لم نطلق ذات اللقب على الجنرال الفرنسي “هنري غورو” الذي اباد الجيش السوري بالكامل في معركة غير متكافئة وهو قادم لاحتلال سورية ومن ثم فصل لبنان جغرافيا وسياسيا وركل قبر صلاح الدين الايوبي في دمشق وقال له انهض ها قد عدنا ” ثم اعدم واحرق ودمر، ايهما أولى بلقب السفاح ؟ ام ان الاخر الأشقر القادم من بلاد الغرب هو من يملي علينا الصفات والالقاب.
في وقتنا هذا تروج على ألسنة بعض النخبة العربية كليشيهات سياسية دارجة وشائعة متداولة إعلاميا وسياسيا باعتبارها حقائق من قبيل ايران تحتل اربع عواصم عربية، ايران تتدخل في الشؤون العربية، ايران تزعزع استقرار دول عربية، ايران تهدد دول عربية.
 ولو صمينا اذاننا عن صوت المزمار في فم العازف لصحونا على ان الولايات المتحدة تحتل جزءا من الأرض السورية احتلالا مباشرا بقوات عسكرية تسرق نفط وموارد العباد وتقسم البلاد، تحتل جزءا من الأرض العراقية، بعد ان دمرت العراق وقتلت مليوني عراقي وشردت الملايين في ابشع جريمة بحق دولة في التاريخ المعاصر. وحولت العراق لدولة فاشلة قائمة على المحاصصة وليس المواطنة .
 تحاصر لبنان اقتصاديا، وتصادر القرار السياسي فيه، وتهدد مسؤوليه بالعقوبات والاعدام السياسي لو فكروا بقبول عرض أي دولة لمساعدة البلاد وإنقاذ الشعب من حالة الانهيار المعيشية. لكن العازف يجرنا بالمزمار لننعت مقاومتها الشريفة بالإرهاب، ونتهمها بخراب لبنان. تلك المقاومة التي حررت الأرض واعادتها عربية لبنانية.
تحاصر أمريكا الشعب السوري حصارا خانقا حد التجويع والفتك البطيء بسادية قل نظيرها في التاريخ. منذ بضع سنوات اطلق عازف المزمار اللحن ” بان بشار الأسد يقتل شعبه” وسار الركب الى النهر الجارف خلف اللحن. ولو اسكتنا صوت المزمار قليلا لشاهدنا كيف أدخلت الولايات المتحدة ومن معها من الشركاء والاتباع والأدوات مئات آلاف حثالات الأرض من الإرهابيين المتطرفين الظلاميين الى سورية، ثم أدخلت لهم السلاح والمال مع التغطية الإعلامية المضللة والسرديات الزائفة، فاحرقوا سورية ودمروا مدنها وشردوا شعبها. لم يكن لسورية من ذنب سوى انها رفضت التنازل واعتبرت القضية الفلسطينية قضيتها ودعمت حركات المقاومة بالدم والسلاح. هذه هي الحقيقة بعيدا عن صوت المزمار، الحقيقة التي لن يسمعها ولن يقبلها المترنحون على صوته..
الشعب السوري يقتل الى اليوم بمجزرة جماعية كاملة الاوصاف خنقا جراء حصار الولايات المتحدة، لا كهرباء ولا ماء ولا غداء ولا وقود ولا حليب أطفال ولا دواء. وبقرار صارم ظالم ومعلن من البيت الأبيض. لكن للمزمار سحره وقوة لحنه الذي لا يقاوم، وليس لنا الا ان نمضي خلفه.
كنت في دمشق قبل أيام تلك المدينة الحضارية التي كان نورها يشع على كل العالم العربي، باتت معتمه وبائسة وفقيرة وحزينة. وتلك ليبيا التي دمروها وحولوها لملل ونحل وجماعات تتقاتل وشقف جغرافية متناحرة، واليمن العزيز الذي يقاتلون فيه اشباح ايران فيقتلون يمنيين ويجوعون يمنيين ويحاصرون يمنيين ويقصفون مدنا يمنية، فلا يجدون إيراني واحد لكنهم يستمرون في القتل والدمار والحصار.
الولايات المتحدة التي تدعم وتحمي وتشجع إسرائيل صاحبة السجل الأكثر سوادا في التاريخ الإنساني كله في إبادة شعب كامل وطرده من ارضه والتمتع بسفك دم اطفاله كل ما استطاعت الى ذلك سبيلا إسرائيل الموغلة في دم الشعوب العربية، المغتصبة للقدس اقدس مقدساتكم كمسلمين ومسيحيين، المحتلة لارض فلسطين العربية التي ادرتم لها ظهركم وهي من لحمكم ودمكم، المحتلة للجولان السوري ولجزء من لبنان. المعتدية كل يوم على سورية ولبنان وغزة والضفة والقدس. في نهاية المطاف طوعا نمشي خلف عازف المزمار، ونذهب لمصالحتها والتطبيع معها وفتح أبواب بلدننا امامها. بالمقابل نعتبر ايران الخطر الداهم ونجند انفسنا وامكاناتنا لمواجهتها. هل فعلا نحن امة ساذجة ؟
ذاك هو النهر الجارف الذي تلقي الامة نفسها به وهي تترنح على الحان مزمار الموت. وتلك هي أمريكا التي نتسابق للفوز برضها، لا احد من النخبة السياسية الحاكمة في عالمنا العربي يجرؤ على نعتها بالإرهاب، ليس الا قلة قليلة جدا جدا من أبناء هذه الامة تواجهها بحقيقتها الاجرامية وتدفع الثمن. وأول من يدفعها ذلك الثمن أبناء جلدتها وليس ساكن البيت الأبيض. يا له من ثمن مضاعف وألم مضاعف.
اليوم تذهب شرائح واسعة من الجمهور العربي نحو تبني سردية روسيا المعتدية، واكرانيا المظلومة المدافعة عن ارضها بقوتها الذاتية وصمودها، كما يذهبون نحو تبني صورة الرجل الاخرق والقاتل لرئيس كوريا الشمالية، وصورة ايران البعبع، والصين التي تقتل المسلمين في بلادها، روسيا التي تقتل الشعب السوري.
 في يوم ما قبل اكثر من مئة عام سرنا فيما سميناه “الثورة العربية الكبرى”، ولم نكن وقتها ألا كتلك الفئران التي يجرها العازف نحو حتفها. نعلم اننا بهذا الراي نعاكس التيار ومسار اللحن، وندفع الثمن من أبناء جلدتنا و اخوتنا. لكن سنظل ندافع عنهم وعن امتنا.
كاتب واعلامي

Editor Editor

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *