اختطاف المجتمع المدني

 اختطاف المجتمع المدني

موفق محادين

د. موفق محادين
مثلما جرى اختطاف مفاهيم الحرية والثورة وغيرها من مفاهيم حركة التحرر الوطني، ودمجها في قاموس المجاميع المشبوهة من عملاء السفارات الأطلسية، وما يرتبط بها من محميات الأبراج العقارية والنفط والغاز المسال، ثمة اختطاف سافر لمفهوم المجتمع المدني وصل حد التسليم من بعض القوى الوطنية بهذا الاختطاف والتعامل معه كمفهوم يعبر عن لون وتيار معيّن.
أما الحقيقة، فهي أن المجتمع المدني لا علاقة له من قريب أو بعيد بمجاميع السفارات الأطلسية والخليجية، والأقنعة التي يستخدمونها باسم حقوق الإنسان وتمكين النساء والتمدين والحريات السياسية وصحافة الاستقصاء، وغير ذلك من شعارات مسروقة ومختطفة أيضا من قاموس التحرر الوطني، وموظفة في خدمة أجندة التفكيك والفوضى كما من أجل إعادة إنتاج البلدان المستهدفة في المنظومة الرأسمالية من موقع التبعية.
ابتداء وقبل والتوصيف الفكري والتاريخي لمفهوم المجتمع المدني، لا بد من التأكيد على أن للعمل السياسي وغيره قوانينه وتقاليده، التي تظل على مقربة من الأدوات العلمية كما بقية العلوم الإنسانية، ومن هذه القوانين، قانون التناقضات وجدل العلاقة بين الأفكار والوقائع ومنحها أوزان نسبية متغيرة متحركة.
وهي القوانين التي لا تضع أي مجتمع مدني أو ثورة على أرضية التحالف مع قوى التناقض الأساسي (المتروبولات الامبريالية) ولا مع قوى التناقض الرئيسي (العدو الصهيوني) ولا مع تجليات هذين القانونين، مثل الخصخصة وفلسفة السوق والبنك الدولي وقوى الفساد والتبعية والطائفية ومحميات النفظ والغاز المسال ومنابره ومرتزقته.
بالعودة إلى مفهوم المجتمع المدني، فقد تطور في سياق التشكيلات والحقب الاقتصادية الاجتماعية المختلفة، من الرق إلى الإقطاع إلى الرأسمالية، وقد كانت التجربة الأولى هي التي عرفتها أثينا – المدينة، التي كانت تميز بين مجتمع المدينة ممثلا بالمواطنين الأحرار من الذكور، وبين الآخرين غير المواطنين (النساء – الغرباء – العبيد).

وكان المجتمع الأول (مجتمع المدينة) خليطا من مفاهيم مدنية وسياسية مثل حق الاقتراع.
في المرحلة التالية التي جمعت رواسب الرق (عمال المحاجر) والإقطاع العسكري الروماني، نجح شيشرون في تعميم مفهوم المواطنة أكثر مع بقاء روما مركزا للنبلاء الأحرار وسيادتهم.
ستمر قرون طويلة قبل أن يبدأ نظام الإقطاع الجرماني – البابوي بالتفسخ لصالح ثورات متراكمة، علمية (كوبرنيكس – غاليلليو – كبلر) وتجارية وخاصة في جنوى والبندقية، ودينية (ثورة لوثر وكالفن)، وفكرية وصناعية، وخاصة في بريطانيا مثل الآلة البخارية وآلات النسيج.
في قلب هذه التحولات، ظهرت أولى بذور الحديث عن المجتمع المدني سواء عبر فلاسفة مثل كانط وخاصة مفهومه حول المواطنة العالمية، ومثل هيجل أو عبر نظريات العقد الاجتماعي وخاصة في ذروة ظهور الدولة القومية (دولة وستفاليا) في القرن السابع عشر.
ومن المفارقات النظرية هنا، أن رجل دين مسيحي مثل توما الاكويني كان سباقا في ذلك وهو يستعيد من فلسفة أرسطو وافلاطون ليكمل أفكار سابقة عليه للأب قسطنطين في القرن الرابع الميلادي.
بحسب قسطنطين، إذا كان الشر مرتبطا بالخطيئة والأرض والتاريخ، فإن الخير يتم بنعمة الله، وعليه لا بد من مملكة دنيوية لمواجهة الشر ولكن بحدود هذه الحاجة التي لا ترقى إلى مستوى المملكة السماوية الكبرى.
بهذا المعنى، ثمة مجتمع في مدينة الأرض (أقرب إلى فكرة المجتمع المدني) يحتاج إلى تنظيم نفسه بحدود هذه الحاجات، أما التحولات الكبرى على هذا المفهوم، فهي التي ظهرت مع النقاشات التي أثارتها نظريات العقد الاجتماعي المختلفة، بدءا مع تومس هوبز (1588 – 1979) ثم جون لوك (1632 – 1704) وروسو (1712 – 1778) وهيجل (1770 – 1831) وماركس (1818 – 1838) وأخيرا غرامشي (1891 – 1937).

  • بحسب هوبز في كتابه (اللوياثان) وانطلاقا من فكرة الأمن العام ومن أجل تثبيت الحكم في بريطانيا في تلك الفترة من الفوضى الناجمة عن الصراعات الدموية بين البرلمان والتاج، ربط هوبز العقد الاجتماعي بالسلطة المطلقة (تفويض السلطة مقابل الأمن الاجتماعي)، وقد ظلت أفكاره مصدرا لكل الردّات الملكية على الجمهورية بعد الثورة الفرنسية، إذ شهدت فرنسا ثلاثة عهود ملكية قبل سقوط آخرها (نابليون الثالث).
  • بعكس هوبز وانطلاقا من (الحق المقدس) للملكية الخاصة والحرية دعا جون لوك إلى فصل المجتمع المدني عن الدولة، وكان مونتسكيو في كتابه (روح القوانين) أقرب إليه.
  • بحسب روسو في كتابه (العقد الاجتماعي)، فقد أقام علاقة جدلية بين الفرد والجماعة عبر ما أسماه بالإرادة العامة: يصنع الأفراد القوانين بصورة ديموقراطية ويخضعون لها في الوقت نفسه.
  • في (ظاهريات الروح) وفيما يخص حركة الروح الموضوعي (تقع بين الروح الذاتي والمطلق) ميز هيجل بين العام (الأسرة) والخاص – الجزئي (المجتمع المدني) والمفرد (الدولة)، وقدم مفهوما للمجتمع المدني أقرب إلى مفهوم آدم سميث (1723 – 1790) الذي اعتبر المجتمع الحديث مجتمعا صناعيا يحتاج إلى تنظيم نفسه نقابيا، أما الدولة عند هيجل فهي المجتمع السياسي الذي يجسد الحرية بمعناها التاريخي المكتمل، وبالمثل، كارل ماركس، الذي قارب المجتمع المدني من زاوية اقتصادية – نقابية.
  • وصولا إلى الفيلسوف الاشتراكي الإيطالي غرامشي (الصورة المرفقة)، والذي يعد المؤسس التاريخي والفكري لمفهوم المجتمع المدني، فقد ميز بين المجتمع السياسي ممثلا بالدولة وبين المجتمع المدني ممثلا بالأحزاب والنقابات والمنظمات الشعبية، مضيفا بعدا جديدا للسياسية والاقتصاد، هو البعد الثقافي -الأيديولوجي، وخاصة المثقف العضوي المنخرط في قضايا المجتمع بما هي قضايا التحرر من التبعية وفلسفة السوق والثقافة الرأسمالية وليس الحريات السياسية فقط.
    بالمحصلة، فإن حرب المفاهيم اليوم تقتضي عدم التسليم باختطاف مفهوم المجتمع المدني والتعامل معه كعنوان لنشاط عملاء السفارات، بل تستدعي استعادة هذا المفهوم كجزء من قاموس حركة التحرر الذي يدمج الحريات السياسية بالقضايا الوطنية ضد الامبريالية وقوى التبعية والليبرالية المتوحشة.

Editor Editor

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *