مشروع التحرير الوطني الفلسطيني: قراءة من أجل التاريخ والمستقبل (حلقة 4)

 مشروع التحرير الوطني الفلسطيني: قراءة من أجل التاريخ والمستقبل (حلقة 4)

علم فلسطين

مسعد عربيد وأسامة عمّوري

الجزء الثالث

تحديات وإشكاليات المرحلة

1) الانقسام

(والأدق الاقتسام)

تاريخياً، وبعيدا عن التغني العاطفي والإنشائي، كثيراً ما كان الإدعاء وتكرار المطالبة بالوحدة الوطنية عبر المسيرة الفلسطينية مظلةً لاستدراج الفصائل إلى التراجع والتخلي عن برنامج التحرير، وهي وسيلة أتقنت قيادات “فتح” و م.ت.ف. استخدامها لتحقيق غاياتها، فيما سايرتها القوى الأخرى بما فيها قوى اليسار سعياً وراء مصالحها الفئوية والحزبية ومن أجل الحفاظ على الذات. وقد شاهدنا ذلك مراتٍ عديدة ‏في العقود الاخيرة وكيف تمّ استدراج الفصائل الفلسطينية واحداً تلو الاخر.

يكمن الأساس الجذري للانقسام بين حركتي “فتح” و”حماس”، وبين الضفة الغربية وغزة، في انفصال في المصالح الحزبية والطبقية والفئوية أي سعي كل من الطرفين للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها وعلى مصالحه – ما يجيز لنا أن نسميه مصالح الطبقة الحاكمة. ‏ف”حماس” أيضا لحقت بالإستدوال بدل التحرير منذ عام 2006، وليست “فتح” وحدها أو غيرها من فصائل منظمة التحرير الفلسطينية.

على مدى خمسة عشر عاماً، منذ عام 2006، أبرمت “فتح” و “حماس” ثمان اتفاقيات أو تفاهمات فيما بينهما، وقد فشلت كلها ومعها كل المحاولات لإنهاء الانقسام ولم يتحقق منها إنجازٌ حقيقيٌ واحد.

لا شكّ بأن للانقسام أساساً في اختلاف البرنامج والموقف السياسي ومن المقاومة المسلحة، ولا شك بإنه أحد نتائج اتفاقيات أوسلو، فلولاها لما حصل الإنقسام. هذا صحيح. ولكن لا ننسى أن “حماس” دخلت الانتخابات التشريعية عام 2006 وفازت بها، وأن ‏هذه الانتخابات قامت على أساس اتفاقيات أوسلو ومخرجاتها أي الاعتراف بالكيان الصهيوني والتنازل عن 78% من فلسطين والتخلي عن مشروع التحرير مقابل وهم بناء الدولة والاستدوال. إضافة إلى أن مشروع الهدنة طويلة المدى المطروح من القيادة السياسية ل “حماس” يثير سؤال (1) تخفيف ضربات المقاومة على الكيان الصهيوني، و(2) ومشروع الحفاظ على الذات والمصالح. غير أن هذا لا ينفي موقف “حماس” من استمرار المقاومة المسلحة ودعم صمود شعبنا في غزة وخوض الحروب الشرسة ضد الكيان الصهيوني، ولا يمس بشكل من الأشكال تضحيات شعبنا الأسطورية في قطاع غزة.

لقد أثبتت تجربتا الاستدوال في الضفة الغربية وقطاع غزة انهما عاجزتان عن البقاء والصمود بالاعتماد على مقدراتهما الذاتية، بل اعتمدتا على مصادر الريع والتمويل من مختلف المصادر: رأس المال الأمريكي، مصادر الاتحاد الأوروبي، ‏الأمم المتحدة، نفط الخليج، وهذه كلها قوى تسعى إلى تصفية قضية فلسطين وحق العودة للاجئين الفلسطينيين.

ربّ قائل يقول: كفانا فرقةً وانقساماً، وهو محق. فالمطلوب الآن هو الابتعاد عن المزيد من أسباب ‏الفرقة والانقسام والاقتراب من الوحدة الوطنية بدل الانقسام، ولكن لا بد، وبالقدر ذاته، من تحديد أسس هذه الوحدة لتتناغم مع مشروع تحرير الوطن والتمسك بالمقاومة وتفعيل كافة أشكالها بما فيها المسلحة، ولا يجوز القفز عن حقيقة الواقع القائم دون أن يفهم شعبنا حقيقة ما جرى وما يجري وما هو قادم.

2) إشكالية نقد حركات المقاومة

لقد شكّل النقد وضرورته على مدى التجربة الفلسطينية المعاصرة أحد أهم إشكاليات الفعل السياسي، وربما أكثرها تعقيداً، حيث أنه من ضرورات العمل الثوري. وبهذا نقصد، أنه على الرغم من الفذلكة المتكررة حول ضرورة مراجعة وتقييم التجارب والمراحل، وأنه لا يحق لأي فصيل الترفع عن النقد والمراجعة والتقييم، أو أن يرقى بنفسه إلى مستوى القداسة والتقديس، فإن الواقع يثبت العكس.

هنا نجد أن نقد حركات الدين السياسي في فلسطين، “حماس” والجهاد الإسلامي، اللتين تمسكتا بالمقاومة المسلحة ورفضتا الاعتراف ب”إسرائيل” وظلتا منذ عقود خارج إطار م.ت.ف.، كثيراً ما نجد أن أي نقد لهاتين الحركتين يُواجه بالرفض والإنكار على قاعدة أنهما حركتا مقاومة ولا يجوز نقدهما. غير أن الواقع يقول لنا شيئاً مغايراً، بل إن تجربة شعبنا مع حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة برمتها توصلنا إلى نتائج مختلفة: فحركة “فتح” كانت حركة مقاومة مسلحة وقدمت آلاف الشهداء والمناضلين من أبناء شعبنا على درب الكفاح المسلح، إلا أن قيادتها انتهت، عبر هيمنتها على قيادة م.ت.ف.، إلى توقيع اتفاقيات أوسلو مع الكيان الصهيوني والتخلي عن المقاومة المسلحة ومشروع تحرير كامل التراب الفلسطيني.

لقد دخلت “حماس” الانتخابات عام 2006 تحت مظلة أوسلو. فإذا كان هذا خطأً أو تورطاً أو حتى انعكاساً لخلافات في قراءة الموقف السياسي داخل التيارات المختلفة في الحركة (جناح سياسي، جناح عسكري، مكتب سياسي…)، إذا صحت أية من هذه الفرضيات، فلماذا لم توضح الحركة حتى اللحظة موقفها، أو تتراجع عنه، أو تعتذر عنه للشعب الفلسطيني إذا كانت تعتبره خطأً؟ “حماس” لا تعترف باتفاقيات أوسلو ولكن النظام الأساسي الفلسطيني والانتخابات هما الأسلوب الوحيد لدخول السلطة على أمل “تغيير التزامات” السلطة تجاه اتفاقيات أوسلو، وقد جُرب هذا وفشل حيث لم يسمح لها كأغلبية ان تحكم من خلال حكومة إسماعيل هنية، كما تم اعتقال معظم وزراء و نواب “حماس” في الضفة الغربية. فهل الانضمام الى نظام سلطة أوسلو مرة أخرى سينجح؟

مَن المسؤول عن فشل خمسة عشر عاماً من اللقاءات والمحادثات بين “فتح” و”حماس” وعن ثمان اتفاقيات بينهما؟ هل هي “فتح” لوحدها، أم “حماس” لوحدها أو كلتا الحركتين؟

كيف نفهم الهدنة طويلة المدى بين “حماس” والكيان الصهيوني؟

كيف نوفق بين “حماس” كحركة مقاومة وصامدة ضد حصار قطاع غزة والمتصدية للعدوان الصهيوني المستمر عليه، وبين موقفها من الحرب الكونية على سورية منذ بدايتها؟ وكيف نوفق بين اصطفافها في صف المقاومة، من جهة، ومن الجهة الأخرى (1) علاقتها مع تركيا التي تآمرت على سورية (وما زالت) وشنت حربها الإرهابية ضدها، وما زالت حتى يومنا هذا تحتل أراضيها؟ و(2) علاقتها مع قطر التي موّلت الإرهاب ضد سورية بملياردات الدولارات وتآمرت عليها على كافة الأصعدة السياسية والعسكرية والاستخباراتية؟

هذه تناقضات تجعلنا نتساءل إلى أي مسار إستراتيجي ستنضم “حماس”، حيث ان تكون حليفاً لقوى وأطراف متصارعة لا يمكن ان يكون واقعياً ولو دام لفترة ما، ففي نهاية المطاف لا بد من الانحياز لطرف دون آخر.

3) الإدمان على التمويل

لقد دخل المال والثراء إلى ساحة المقاومة الفلسطينية وجيوب بعض قياداتها، ومنهم بعض القيادات المناضلة، بدءً من أواخر ستينيات القرن الماضي. وقد أدّى التمويل، كما كان عليه الحال دوماً في الحياة السياسية الفلسطينية، إلى تنامي المصالح الفردية والحزبية الضيقة مما ساهم في تدني النضال الوطني، كما أدى تفشيه إلى انسلاخ القيادات الفلسطينية عن القاعدة الشعبية – مادة المقاومة وحاضنتها – وإلى نشوء شريحة من المنتفعين وأشكال قبيحة من ظواهر الفساد والإفساد والإبتعاد عن المقاومة ومبادئها وثقافتها ومسلكيتها. وقد شهدت الساحة اللبنانية في تلك المرحلة الكثير من هذه الظواهر، واستمر هذا النهج بل ونمى بشكل مدمر في الضفة و القطاع.

هذا في خلفية التمويل وتغلغله إلى حركة المقاومة الفلسطينية والمنظمات الشعبية والأهلية في فلسطين. أما اليوم، فإننا نرى أن السلطة في الضفة الغربية تتلقى التمويل من أنظمة الخليج ورأس المال الأميركي ودول الاتحاد الأوروبي والمنظمات غير الحكومية، وكذلك السلطة في غزة التي تتلقى التمويل من قطر وغيرها من أنظمة وقوى الدين السياسي.

إذن، التمويل ليس أمراً جديداً، ولم يحصل بعد إقامة السلطة في الضفة الغربية صيف 1994، فالمصالح الطبقية الاقتصادية لرأس المال الفلسطيني داخل فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وقيادتها وخارجها، والتي تكونت، كما قلنا منذ سبعينيات القرن الماضي، تنامت لاحقاً وتمثلت في تحقيق اتفاقيات وعقود اقتصادية مع المحتل الصهيوني، وما أن وصلت هذه القيادة إلى أوسلو 1993 والحكم الذاتي عام 1994 حتى كانت مصالحها الطبقية والاقتصادية واضحة ومكتملة التكوّن والتجسيد في شركات وصفقات مع العدو الصهيوني.

أمّا نتيجة ذلك، فهي انتقال القيادة الفلسطينية، من خلال السلطة، إلى الفساد المالي والإفساد والاستثمار، قطع علاقة السلطة بالوطن أو بالعمل الوطني.

‏لقد اعتاشت الشريحة الحاكمة الفلسطينية ورأس المال ‏الفلسطيني في قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وخارجها وأثرت ثراءً طائلاً من الدعم الغربي الإمبريالي والخليج العربي، ‏واللذان يهدفان في الأساس إلى إفراغ المضمون الثوري لحركة التحرير الوطنية الفلسطينية والقضاء على الكفاح المسلح وجذوة الثورة في فلسطين وكافة أرجاء الوطن العربي. أما المواطن، فقد إنشغل بالقروض والسعي اليومي وراء هموم الحياة وجني لقمة العيش، إلى جانب الضرائب الباهظة التي تفرضها السلطتان على الشعب التي أرهقت المواطنين ودفعتهم إلى مغادرة الوطن وأبعدتهم عن مقاومة الاحتلال.

4) فَلَسْطَنة القضية وطمس العمق العربي للصراع العربي – الصهيوني

لقد أكدت الثوابت الفلسطينية في كافة وثائقها على عروبة فلسطين وقضيتها استناداً إلى المرتكزات الأساسية التالية:

– فلسطين عربية الهوية والانتماء وقضيتها هي القضية المركزية للأمة العربية؛

– فلسطين أرضٌ عربية وجزءٌ من الوطن العربي؛

– الشعب الفلسطيني جزءٌ من الأمة العربية.

وقصدُنا من التأكيد على هذه المسألة هو استعادة مركزية عروبة فلسطين لمكانتها في الصراع على بلادنا ومناهضة المؤامرات الصهيونية – الإمبريالية، لأن استيطان فلسطين كان حلقة رئيسية في استهداف الوطن العربي، وقاعدة متقدمة للإمبريالية لتكون مدخلاً للهيمنة على شعوب ومقدرات الأمة العربية. فليست فلسطين وحدها هي المستهدفة، بل إن المستهدف هو الوطن العربي بأسره. ومنذ نشأتها، استهدفت الصهيونية، فكرةً ومشروعاً، الوطن العربي بأكمله وليس فلسطين لوحدها، وذلك في سياق مشروع استعماري نهبوي لأوطاننا وشعوبنا وثرواتنا. لهذه الأسباب فان تحرير فلسطين مشروع تحرير وطني وفي الآن ذاته مشروع قومي عربي.

أ) إذا أتفقنا على أن ما جاء أعلاه في الثوابت الفلسطينية ‏صحيح، وهو صحيح، فإن الحقيقة تملي علينا القول أن القيادة الفلسطينية المتنفذة بالقرار لم تأخذ عروبة فلسطين ودور الشعوب العربية في معركة تحريرها مأخذ الجد، بل تعاملت مع الشعوب العربية بخطاب إنشائي وبشعارات عاطفية، مدّعية التمييز اللفظي بين النظام العربي الرسمي (الأنظمة الحاكمة) من جهة، والشعوب والجماهير العربية من جهة أخرى. هذا من ناحية، ومن الناحية الثانية، كانت القيادة الفلسطينية تنسج العلاقات مع الأنظمة العربية الرجعية، وليس مع الشعوب العربية وأحزابها وتنظيماتها، وذلك كسباً للمال، بل هي تآمرت مع الأنظمة العربية الرجعية على شعوبها ومناضليها الثوريين وقدمت لها الخدمات والتنسيق الاستخباراتي ضد حركات المعارضة والثورة العربية (المعارضة السعودية وغيرها من الأمثلة العديدة).

ب) أما الأنظمة العربية الرجعية، فقد وقفت على مدى التاريخ العربي المعاصر كحاجز مانع بين المقاومة الفلسطينية والشعوب العربية، وانصاعت لإملاءات الصهيونية والإمبريالية في الحيلولة دون صعود حركات المقاومة والتغيير والثورة في وطننا العربي من أجل حماية مصالح الطبقة الحاكمة لهذه الأنظمة من شعوبها وضمان بقائها وديمومتها.

ولعله من باب المفارقة الهامة والمؤلمة، أن الكيان الصهيوني يعي تماماً مركزية المسألة الفلسطينية كقضية عربية قومية ويدرك أن الصراع في جوهره وطبيعته صراعٌ عربيٌ – صهيوني، ولهذه الأسباب وبالقدر ذاته فإنه يخشى على وجوده ومصيره.

5) التطبيع مع الكيان الصهيوني

دعونا نبدأ بالتعريف البديهي للتطبيع مع الكيان الصهيوني والذي يعني دون لبس الاعتراف ب”إسرائيل” على 78% من أراضي فلسطين التي تم احتلالها عام 1948، وعلى الأراضي التي تمّ وسيتم استيطانها وتهويدها في الضفة الغربية، وهذا يعني التخلي ‏عن تحرير فلسطين والتنازل عن الوطن للعدو المحتل.

على الرغم الكثير مما قيل في التطبيع مع الكيان الصهيوني، تبقى أبعاد هامة وحقائق مطموسة، وهو ما يشوه الوعي الفلسطيني والعربي في الموقف من هذا العدو. وسوف نسلط في السطور التالية، بعض الضوء على أهمها من منظور آثارها على الوعي الشعبي الفلسطيني والعربي، وهو ما يهمنا.

أ) التطبيع من المنظور الصهيوني

يستند هذا إلى إستراتيجية صهيونية تقوم على منطق القوة المطلقة والهيمنة التامة، وأن القوة وتعزيزها هي وسيلة التعامل مع المحيط العربي، وهي العامل الحاسم والمقرر في فرض الأمر. وعليه، فالتطبيع من المنظور الصهيوني يهدف إلى الذهاب إلى ما هو أبعد من فلسطين، واختراق أجزاء الوطن العربي القريبة والبعيدة، وصولاً الى مشروع الهيمنة حيث يصبح الكيان الصهيوني “قوة عظمى” في الإقليم ويطبق هيمنته على الوطن العربي ومقدرات شعوبه.

ب) التطبيع من المنظور العربي الرسمي

(الأنظمة العربية)

الدور الوظيفي للأنظمة القُطرية: نبدأ من الإشارة إلى تناغم الدور الوظيفي لكلٍ من الكيان الصهيوني والأنظمة العربية القُطرية، أنظمة التجزئة وسايكس – بيكو، إذ بدون الفهم الجذري لهذا الدور سيتعذر فهم هرولة الأنظمة العربية نحو التطبيع، بل ستمر هذه الأحداث كغيرها دون تأصيل لفهم العلاقة الترابطية بين الكيان الصهيوني والكيانات العربية.

1) تشكل هذه الكيانات، الصهيوني والأخرى العربية القُطرية، توأمان ليس من حيث السياق التاريخي وحسب، بل ومن حيث الوظيفة والتبعية للإمبريالية والرأسمالية الغربية؛

2) والوظيفة هي إبقاء الوطن العربي مجزءً وإلى مزيد من التفتيت من أجل استدامة الهيمنة على شعوبه وثرواته ومقدراته؛

3) ويتبع هذا المنطق، أن الحفاظ على بقاء الكيان الصهيوني ومصالحه هو من ضمن وظيفة الكيانات العربية القُطرية.

التطبيع العربي الرسمي: إذا فهمنا هذه الرابطة بين شقي المخطط الإمبريالي في تجزئة الوطن العربي – (1) الكيان الصهيوني كقاعدة إمبريالية، (2) والأنظمة العربية ككيانات عربية قُطرية تابعة للإمبريالية – فإنه يتسنى لنا أن نلج مسألة التطبيع العربي الرسمي مع الكيان الصهيوني، من مدخل موضوعي ومنطقي، وحينها لا يكون استهجان ولا استغراب، وحينها فقط نستطيع أن نبدد الأوهام:

– فالتطبيع الرسمي العربي (الأنظمة العربية والجامعة العربية ومختلف كيانات الخليج وغيرها) قائم منذ أن بادر به النظام المصري الساداتي عام 1978 – 1979 وربما قبل ذلك، وأن علاقة هذه الأنظمة مع الكيان الصهيوني ليسب عصية على الفهم، وليست أمراً مستجداً ولا سراً ولم يكن يوماً كذلك، فقد كانت هذه الأنظمة دوماً مطبعة.

– في سياق حملة التطبيع، تقدم هذه الأنظمة نفسها وكأنها كانت “عدواً” للكيان وأنها تسعى اليوم لإقامة السلام معه، والحقيقة أن هذه الأنظمة لم تكن معادية للكيان ولم تحاربه، وأن القوى الوحيدة التي حاربته هي مصر الناصرية وقوى المقاومة الفلسطينية ومحور المقاومة في سورية ولبنان.

ج) التطبيع من المنظور الشعبي العربي

رغم الاتفاقيات لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، لم تتراجع الشعوب العربية يوماً عن الرفض القاطع لهذا الكيان ووجوده ولأي علاقة معه. وعلى مدى مسيرة التطبيع مع الكيان الصهيوني – بدءً من تطبيع النظام المصري الساداتي مع الكيان الصهيوني 1978 – 1979 و م.ت.ف. بعد اتفاقيات أوسلو (1993) ووادي عربة مع الأردن (1994) وما تبعها من أنظمة الخليج – لم يتزعزع موقف الجماهير العربية في رفض الكيان الصهيوني ورفض التطبيع معه.

د) التطبيع من المنظور الفلسطيني

يعنى هذا التطبيع في أبسط معانيه، كما قلنا في أكثر من مكان، الاعتراف ب”إسرائيل” والتخلي عن تحرير فلسطين، ويفرض هذا بالمنطق والضرورة معالجة التطبيع من منظورين:

الأول، العلاقة مع الكيان الصهيوني أي تطبيع هذه العلاقة، وهو ما حصل منذ اتفاقية أوسلو وحتى يومنا هذا. وهذا، بالمدلول العملي، يعني استيلاء الكيان الصهيوني على فلسطين: أي على ما احتله عامي 1948 و1967، واستمرار القضم والضم والتهويد لمزيد من أراضيها والإقتلاع الكامل للشعب الفلسطيني من وطنه.

والثاني، يتعلق بالبعد العروبي للقضية الفلسطينية. بعبارة أخرى، العلاقة مع فلسطين وقضيتها كقضية عربية مركزية. وهنا، فالتطبيع يعني تصفية القضية والعمل مع العدو الصهيوني على تصفيتها ضمن المخطط الصهيوني – الإمبريالي.

ه) جدلية التطبيع بين “الفلسطيني”… و”العربي”

لقد استند التطبيع العربي الرسمي إلى ذريعتين هزيلتين:

الأولى، مفادها:” نحن نوافق على ما يوافق عليه الفلسطينيون”؛

والثانية، تدّعي أن مَن يلتزم بالتطبيع (أي القيادة الفلسطينية) ليس له الحق في الاعتراض ونقد الآخرين على التطبيع. والحقيقة أن التطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني لعب دوراً هاماً في تشجيع القيادة الفلسطينية ودفعها قدماً في مسيرتها نحو وهم الدولة المزعومة والتخلي عن مشروع التحرير وإسقاط الفصائل الفلسطينية في فخ تصفية القضية الفلسطينية كقضية وطن وتحرير وطني.

إنطلاقاً من مناقشتنا لعروبة فلسطين ومركزية قضيتها في حياة ووجدان ومصالح الأمة العربية، فإن التطبيع الرسمي العربي مع الكيان الصهيوني مرفوض من حيث المبدأ والموقف القومي حتى لو جاء بعد التطبيع الفلسطيني، لأن قضية فلسطين هي قضية عربية في الأساس والجوهر، ولأن قيام الكيان الصهيوني والمشروع الصهيوني برمته، هو في الاصل موجهة ضد مصالح الشعوب العربية وأمنها واستقرارها وتنميتها ووحدتها.

لذلك فإنه تطبيع منظمة التحرير الفلسطينية مع الكيان الصهيوني لا يقدم تبريراً للتطبيع العربي ‏الرسمي مع هذا الأخير، وفي الآن ذاته لا يمنح القيادة الفلسطينية الحق في نقد التطبيع العربي، وهي التي سبقتهم في ذلك.

Editor Editor

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *