مسافر يطّا: نساء عنيدات وراويات لإعمار متجدد كلّما هدّمها الاحتلال

الإنتشار العربي: إنّ زيارة منطقة مَسافِر يطّا في محافظة الخليل، والتي تواجه فصلاً جديداً من التهجير القسري، وإمضاء يوم كامل فيها، ربّما يعنيان الانتقال إلى عالم آخر، موازٍ ومتباين كلّياً عمّا نألفه ونحسبه “عاديّاً”.
أغلبية الطرق وعرة وصخريّة، والشوارع غير معبّدة، والبيوت مبنية وفق الطراز القديم من الطين والقشّ، وغير موصولة بالكهرباء ولا حتّى بشبكات المياه. ويعتمد السكّان، في الأساس، على الزراعة وتربية المواشي، ويبتاعون صهاريج المياه التي تكلّفهم أضعاف ثمن النقل بالأنابيب، في حين تمرّ مياه شبكة “ميكروت الإسرائيلية” من جانب قرى منطقة المسافر، لتزوّد بالمياه المستوطنات الإسرائيلية التسع، التي تطوّق المنطقة، على الرغم من أنّ مصدر هذه المياه هو المياه الجوفيّة في مدينتي بيت لحم والخليل.
يسكن قسم كبير من سكّان مَسافِر يطّا داخل الكهوف والمغارات، التي يطلقون عليها اسم “الطور”. وفي كثير من الحالات، يكون السكن فيها ليس خيار العائلة، وإنّما بسبب سياسة هدم المنازل، التي تنتهجها “إسرائيل” عمداً بهدف السيطرة على أكبر مساحة من الأراضي، أو بسبب عنف المستوطنين تجاه الأهالي.
ما تراه في مسافر يطّا يستحق التوثيق. فعلى الرغم من انعدام مقوّمات الحياة الأساسية، فإنك تجد أهالي المسافرِ يتمسّكون بالحياة ويتشبّثون بأراضيهم ومنازلهم، ويستقبلون الزوّار أحرَّ استقبال. وتصرّ النساء على تقديم “واجب الضيافة” على أتمّ وجه، كما فعلت جدّاتهنّ قبلهنّ.
والنساء هناك صلبات وعنيدات، وقد يصحّ القول إنهنّ حكواتيات بارعات، لا تملّ من سماعهنّ، بحيث يأخذن دورهنّ في رواية قصّة المكان. فأنت لن تعود إلى حيث أتيت من دون حزمة من الحكايات عن إصرارهنّ وصمودهن، وانتزاع حقوقهنّ الطبيعية من بين فكّي كل آلة من آلات الهدم الإسرائيلية، ثم تتساءل: ما سرّ هذا الصمود؟
أصل الحكاية
يعيش ما لا يقلّ عن 1.300 فلسطيني في مسافر يطّا في محافظة الخليل، جنوبيّ الضفّة الغربيّة. ومسافر يطّا هي تجمّع لـ19 خربة وقرية فلسطينية: جنبا، المركز، الحلاوة، خربة الفخيت، خربة التبان، خربة المجاز، خربة أصفي (الفوقا والتحتا)، مغاير العبيد، بقلة، الطوبا، شعب البطم، بير العد، قواويس، خربة المقعورة، الركيز، خلّة الديب، صارورة وطوبا. ويواجه السكّان خطر الإجلاء والتهجير القسريَّين. أمّا يطّا فهي المدينة الفلسطينية الأقرب جغرافياً إليهم؛ أي هي العالم الكبير بالنسبة إليهم.
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي تصنيف نحو 30 ألف دونم من منطقة مسافر يطّا على أنها “منطقة إطلاق نار 918″، بهدف إجراء التدريبات العسكرية لجيش الاحتلال فيها. وباتت المنطقة أشبه بميدان رماية لجنود جيش الاحتلال، وشملت 12 تجمّعاً سكانياً، وهي من أشدّ المجتمعات السكّانية ضعفاً في الضفّة الغربيّة. ونتيجة لذلك، أصبحت هذه المجتمعات عرضة لممارسات قوّضت أمن السكان فيها، جسدياً وغذائياً، بحيث بات من الصعب رعي المواشي في المناطق التي اعتاد الرعاة الخروج إليها، وزاد الأمر في تردّي ظروفهم المعيشيّة وارتفاع مستويات الفقر. فهذه المجتمعات كانت لديها قدرة محدودة جداً على الوصول إلى خدمات التعليم والصحة وشبكات المياه والصرف الصحي والكهرباء، حتّى قبل إعلانها منطقةً عسكريّة، بحيث حُظر على أبناء التجمعات السكانية الوصول إلى منطقة إطلاق النار، مع بعض الاستثناءات التي تسمح بزراعة الأراضي ورعي الماشية فيها في عطلة نهاية الأسبوع، أو خلال الأعياد اليهودية، حينما لا تجري تدريبات عسكرية. وكذلك يُمنع السكان من إنشاء المباني السكنية، أو حتى صيانة منازلهم البسيطة، وذات الجدران الإسمنتية المسقوفة بالصفيح.
في عام 1999، خلال شهرَي تشرين الأوّل/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر، طرد جيش الاحتلال الإسرائيلي معظم سكّان المنطقة، ودمر أو صادر أغلبية منازلهم وممتلكاتهم، بحجة أن المنطقة هي “منطقة إطلاق نار”. لكن، بعد عدة أشهر، أصدرت محكمة العدل العليا الإسرائيلية، في أعقاب التماسات قدّمها السكان، أمراً احترازياً موقّتاً قضى بالسّماح لسكان القرى بالعودة إلى المنطقة، إلى حين صدور قرار نهائي.
من المهم ذكره أن الالتماسات ظلّت معلّقة أكثر من 10 أعوام. وفي عام 2012، قدمت “الدولة” موقفها الجديد إلى المحكمة العليا، وأوضحت فيه أنّها تعتزم هدم ثمانٍ من القرى الـ12، الواقعة ضمن منطقة التدريبات، وأعلنت أنّها على استعداد للسّماح للأهالي بمواصلة فلاحة أراضيهم، التي ستبقى ضمن منطقة التدريبات العسكرية، على أن يقوموا بذلك في نهاية كلّ أسبوع، وفي الأعياد اليهوديّة. في أعقاب ذلك، شطبت المحكمة الالتماسات، لكنّها أتاحت للملتمسين إمكان تقديم التماسات جديدة تتطرّق أيضاً إلى موقف “الدولة” المذكور.
في عام 2013، قدّم الأهالي التماسات جديدة بواسطة جمعيّة حقوق المواطن والمحامي شلومو ليكر، وفي أعقابها أيضاً أصدرت المحكمة أمراً احترازيّاً منع “الدولة” من طرد السكّان إلى حين البتّ النهائيّ في الالتماسات. الجلسة الأخيرة التي عقدتها المحكمة العليا للنظر في هذه الالتماسات كانت في 10.8.20، وفيها عادت “الدولة” مرّة أخرى وكرّرت ادعاءاتها المتواصلة منذ أعوام، ومفادها أنّ الملتمسين لم يكونوا سكّاناً دائمين في المنطقة حين أعلنتها “منطقة تدريبات عسكرية”. ولهذا، لا حقّ لهم في مواصلة السّكن في منازلهم. اليوم، بعد “معركة قانونية” استمرّت طوال 20 عاماً، في أروقة المحاكم الإسرائيلية، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية، في أيار/مايو 2022، قرارها، وقبلت جميع ادعاءات “الدولة”. وأوضحت في حكمها أن السكّان الفلسطينيين، الذين احتفظوا بنمط حياة تطوّر في المنطقة لأجيال كثيرة، ويكسبون عيشهم من الزراعة والرعي، لم يكونوا مقيمين بصورة دائمة بالمنطقة عندما أعلنها جيش الاحتلال الإسرائيلي منطقة تدريب على إطلاق النار في الثمانينيات، ليمهّد الطريق أمام هدم 8 قرى صغيرة في مسافر يطا.
مجتمعات مترابطة ونساء عنيدات
في خضمّ هذه المعركة المستمرة على الأرض والمنزل، كيف بدا شكل الحياة اليومية؟ في قرية التوّاني، والتي يمكن اعتبارها “البوّابة” إلى المسافر، اجتمعت مجموعة “حلقات استقبال”، وهي مجموعة نسائية فلسطينية من مختلف المدن والبلدات الفلسطينية في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، في زيارة تضامنية للأهالي. وهناك تحدّثت السيّدة الناشطة كفاح عدرا عن دور النساء في التصدّي للممارسات الإسرائيلية القمعية، وعن معاركهنّ اليومية لانتزاع أبسط الحقوق وبناء قريتهنّ.
تروي عدرا للميادين نت: “أنا في الأصل من مدينة يطّا. تزوّجت في السادسة عشرة من عمري، وانتقلت للعيش هنا عام 1992، ولم يكن هنا كهرباء وشبكة مياه وشوارع معبّدة، أو حتى بيوت عادية. عاش معظم أهالي البلدة في الكهوف والخيام. كنا نحضر المياه من الآبار القريبة ونحملها على رؤوسنا أو على الدواب. كان هذا الانتقال صعباً بالنسبة إليّ. لم يكن هنا أي نوع من الخدمات. لكن حبّي لعائلتي وللأهالي هنا عزّز بقائي. أجد الناس هنا مترابطين، في كل ما تحمله الكلمة من معنى، ولديهم الوعي الكافي لما يدور حولهم على الرغم من صعوبة الحياة، وعدم تلقّيهم التعليم الكافي. تشعر كأنّ كل العائلات هنا أسرة واحدة. بدأت أفكر كيف يمكنني تغيير شكل الحياة هنا؟”.
في بداية التسعينيات، كان يتوجّب على جميع الأطفال المشي يومياً ما يقارب 3 كم للوصول إلى أقرب مدرسة. وفي الشتاء تكون الأمور أكثر تعقيداً. تقول عدرا: “في فصل الشتاء، أذكر جدّ أولادي عندما كان يربط على خصره حبلاً سميكاً من جهة، ومن الجهة الأخرى يربط به الأطفال ليساعدهم على عبور سيول المطر. هذه الطريق الصعبة أجبرت كثيرين من الأهالي على التنازل عن تعليم أبنائهم”.
وتؤكد أنّ التعليم كان بالنسبة إليها أهم من الماء والكهرباء. وعندما اقترحت على الأهالي بناء مدرسة، كان الأمر مستهجَناً لهم. فهم يتبعون منطقة “ج”، ولا مجالس قروية أو بلديات تهتمّ بشؤونهم، إلّا أنّ البعض أيّد الفكرة، وشكّل لجنة محليّة لتطوير المشاريع في المنطقة. وفي عام 1995، توجّهت اللجنة إلى الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، الذي تعهّد دعم الفكرة مادّياً، إلّا أنه أكّد أن السلطة الفلسطينية لا تمتلك الصلاحيات القانونية في المنطقة. ولاحقاً، اجتمعت اللجنة بأهالي القرية لتحديد مكان المدرسة وآليات العمل والبناء. قد تبدو هذه الأمور عادية، لكن الاحتلال الإسرائيلي يراقب المنطقة ويمنع الأهالي من بناء المؤسّسات، أو حتى صيانة بيوتهم الخاصة. كما أن نقل المواد الخام إلى القرية يبدو مهمة شبه مستحيلة بسبب الطرق وصعوبة الوصول إليها.
تواصل عدرا: “أَصْرَرْنا على إتمام مشروعنا، وقرّرنا أن ننقل المواد بأنفسنا في ساعات منتصف الليل، حين تكون حركة جيش الاحتلال والمستوطنين خفيفة. وبالفعل، هذا ما حدث. لكن، بعد أيام، لاحظنا أن وجود جيش الاحتلال في القرية أصبح شبه يومي. فقرّرنا نحن النساء والأطفال العمل نهاراً، والخروج إلى أعالي الجبال ليلاً، بعد أن ينام الأطفال، لمراقبة دوريات الجيش والشرطة من قوات الاحتلال، كي يتمكّن الرجال من إتمام ما بدأناه. أذكر أنه، طوال 20 يوماً، بالكاد خلدنا إلى النوم. كان علينا إتمام المهمّة بسرعة. كان هذا نهاية عام 1995، وكان الشتاء قاسياً والطقس بارداً جداً. لم نستطع حتى إشعال النار للتدفئة خوفاً من أن يلاحظ “الجيش” وجودنا. وأحياناً، كنا نتحايل على الجنود. فور مجيئهم، كنا نجلس في مجموعات ونعدّ القهوة والشاي، ونقول لهم إننا في نزهة مع أطفالنا”.
بعد مرور 20 يوماً، انتهى الأهالي من بناء المدرسة، وكان هذا اليوم بالنسبة إليهم “يوم عيد”، على حدّ تعبير السيدة كفاح، إلّا أنه، بعد مرور أسبوع واحد، أُبلغوا قرار هدم من “الإدارة المدنية”. قرار وقع عليهم كالصاعقة، فتوجّه الأهالي، إلى المحكمة، والأخيرة أصدرت قراراً احترازياً يقضي بمنع الهدم حتى 10 أعوام، ويحظر على الأهالي بناء غرف إضافية في المدرسة.
تواصل كفاح: “كانت هذه خطوة موفقة بالنسبة إلينا، لكننا اتّخذنا قراراً يقضي بألّا نستسلم لقرار المحكمة، وبنينا غرفة جديدة في كل عام. ومع انتهاء الأعوام الـ10، كان لدينا 10 غرف إضافية. من جهة أخرى، عملت لجنة، تشكّلت من بعض المحامين والحقوقيين المتضامنين، على إصدار الخرائط الهيكلية للقرية. وبالتالي، أصدرت المحكمة قرارها، القاضي بأن هذه المدرسة تقع ضمن حدود الخريطة الهيكلية. شعرت بأن الحكومة الإسرائيلية استسلمت لإرادة الناس وقوّتهم”.
تقول السيدة كفاح إن أهالي القرية استخدموا آلية العمل ليلاً لبناء مشاريع أخرى في القرية. فلاحقاً، بنوا عيادة طبّية ومسجداً وشقّوا الطرقات، كذلك وصلوا البيوت بالكهرباء من خلال نقل الأعمدة والأسلاك، إلّا أن جيش الاحتلال انتظر حتى شارفوا على إنهاء المشروع، وأرسل الجيبات العسكرية والجنود لهدم الأعمدة، لكنّ أهل القرية انتفضوا وتصدّوا لقمعه. وتضيف: “وقفنا، نحن النساء، مع أطفالنا عند مدخل القرية. شبكنا أيدينا في صفوف متراصّة، وصنعنا من أجسادنا متاريس. أذكر أن قائد الوحدة أنزل مجنّدة وطلب منها أن تضرب بقوّة امرأة واحدة فقط، كي تهرب سائر النساء، إلّا أننا بقينا صامدات. وفي ذلك اليوم، رأى ابني (8 أعوام) النور، لأوّل مرة، في المنزل ليلاً”، بحسب شهادة السيدة كفاح عدرا.