قصة قصيرة: في طريقي الى آخر بيوت العمر!

 قصة قصيرة: في طريقي الى آخر بيوت العمر!

الإنتشار العربي :زيد عيسى العتوم
ربما هي المرة الأولى التي أدرك فيها لون الموت ورائحته, لكنها المرة الأولى أيضاً التي أموت فيها وأنا حيّ أرزق, من سيسمع مني قصتي الأخيرة غير نفسي, ومن سيلملم تلك الشظايا المبعثرة في قاع روحي بعد اليوم, فقدت كل شيء وانتحرت حكاية الأمل على مرأى ومسمع من قلبي اليتيم, أعرف جيداً أنها رحلتي الأخيرة وقد لا تطول كثيراً قبل نهايتها, لا بدّ وأنهم سيضعونني في غرفة صغيرة يسودها الصمت, سأكون بعيداً عن ضجيج الحياة الذي اعتدت سماعه واحببته, سأستنزف حينها ما تبقى من ذكرياتي المتساقطة, وسأقبع متجمداً خلف بابٍ أنتظر زائراً دافئاً يطرقه ليُحييني, لا لا أريد أن يطرقه ذلك الزائر فقد تطول وتطول زيارته الثانية, كنت يوماً ما راعياً ومسؤولا, أما بعد الآن فسأتسول سماع أي صوت, وانتظر تلك الغفوة التي سيعقبها موعد الرحيل.
ابني الوحيد: هل أنت بخير يا أبي؟ أنا أعرف أنك قد لا تتفهمني في بداية الأمر, لكنك ستعذرني مع مرور الوقت, يحزنني امتناعك عن الكلام منذ أن أخبرتك بنيتي إرسالك الى دار المسنين, لم يكن ذلك القرار سهلاً بالنسبة لي, لكنه الأفضل لنا جميعاً.
زوجة ابني: وبالنسبة لي أيضاً لم تكن الأمور على ما يرام, لقد عشت معنا ثمانية شهور أو أكثر, وأقدّر لك بيع بيتك وإعطائنا ثمنه كاملاً, كان ذلك لطف كبير منك, وسأبقى بمثابة ابنتك كما كنت تخاطبني دائماً.
ابني الوحيد: أرجوك يا أبي أن تطرح الحزن جانباً, فمنذ وفاة والدتي رأيتك غارقاً في الوحدة, بحاجةٍ الى من يرعاك ويؤنسك, لذلك طلبت منك الانتقال للعيش معنا, وبفضلك تمكنت من شراء بيت كبير, لكن الحال لم يدم طويلاً كما تعرف, فالجميع منشغل بحياته وهذ أمر طبيعي, ثم ازداد تذمرك مني ومن زوجتي, لدرجة امتناعك عن تناول الطعام احتجاجاً على معاملة زوجتي لك في غيابي, وهذا غير صحيح يا أبي.
زوجة ابني: أنا لا أنكر انفعالي في بعض الأوقات, خاصة في المرة الأخيرة عندما كنت أستعد لاستقبال صديقاتي المقربات, فطلبت منك أن تلزم غرفتك حتى ذهابهن, ونسيت تقديم الطعام لك بضع ساعات, وقد أثار ذلك استيائك مني ومن زوجي, خاصة عندما قلت لك: ( إنني لست خادمتك حتى أتحمل عبئك, وأنت لست أبي), لقد كان ذلك الكلام من وراء القصد كما أخبرتك حينها.
ابني الوحيد: سنصل الى ذلك المكان بعد حوالي العشرين دقيقة, لا أعرف سبب هذا الازدحام الغريب, مممم… لقد اخترت لك يا أبي بيتاً مميزاً للمسنين, سترى بعد قليل كم هو مرتب ونظيف, سيقدمون لك الطعام في مواعيد محددة, وقد أعطيتهم ما تحتاجه من الدواء ووعدوني بمراعاة ذلك, سيكون حولك الكثير من الاصدقاء الذين يشابهونك في العمر, ستتحدث معهم متى شئت, ولن تشعر بالملل أبداً.
زوجة ابني: وسوف نقوم بزيارتك كلما كان ذلك ممكناً, وسنتواصل مع القائمين على رعايتك بشكل دائم, وقد اقترحت على زوجي إحضارك بعد بضعة أشهر لقضاء أول أيام العيد معنا, وقد وافقني الرأي.
في تلك اللحظات السوداء اعتقدت أنني أحلم, أو أتخبّط بنوع من الهذيان الرهيب, بعدها انفجرت دموعي كطفل يتيم شهد موت والديه أمام عينيه, أو كمسكين تفصله عن مقصلته بضعة أمتار بعد تجريمه زوراً, تذكرت فرحتي بقدوم ولدي الى الدنيا, تذكرت ملمس يده الصغيرة وأنا أودعه الى مدرسته أول مرة, تذكرت قطع الحلوى التي كنت أضعها قرب مخدته قبل صحوته, تذكرت أنفاسه الصغيرة بينما رأسه يستقر على كتفي عند نومه, تذكرت بكاءه عند سقوطه ونحن نرقبه يحاول المشي أول مرة, أنا عازم الا أنبس بحرف واحد, أشعر أن الدنيا قد ألقمتني حجراً كئيباً, أنا مليء بالضعف ولا أملك من أمري شيئاً.
بعد سماعهم لدموعي أخذ الاثنان ينظران اليّ بنفس الوقت, كانت نظراتهم تحمل التعجّب لا التأثر والحزن, وفجأة لفت انتباهي اندفاع إحدى السيارات المتهورة صوبنا, لم يرها ولدي المحدق بقسمات وجهي في مرآته المجاورة, أفاق قلبي النائم من غفوته, وخرجت روحي المعذبة من قبرها, ونطق لساني المتحجزكما لو كانت أول مرة ينطق فيها: ( احذر يا بني ذلك القادم نحوك, هيا انعطف بسرعة الى اليمين, هيا بسرعة), وكانت تلك آخر كلماتي التي أسمعتها له قبل أن يوصلني الى هذا المكان, كان ذلك قبل ما يقرب الثلاثة أعوام, ولم أره منذ ذلك الوقت الا في ما تبقى من خيالي الحزين!

Editor Editor

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *