غزة تطرق جدران الخذلان.. فهل يسمعها العالم في رمضان؟

د. لينا الطبال
د. لينا الطبال
هل تبحث عن إجابات مريحة؟ لا تسألني اذا. لا تسأل ما قد لا يسرك سماعه، فأنا لا اؤمن بالمواقف الرمادية. إذا كنت تبحث عن إجابة مطمئنة فلن تجدها عندي. أنا لا أرى إلا الحقيقة الواضحة والثابتة كالمفتاح في يد لاجئ فلسطيني.
كان يمكن لأي حديث كهذا أن ينتهي قبل أن يبدأ، لكنني أبحث لك عن جواب حاسم، جواب متماسك أمام الأسئلة الكبرى. “لماذا التجويع؟ لماذا الآن؟ وماذا بعد؟”.
السياسيون سيقولون إنه “تكتيك”، والمحللون سيفسرونه بـ”ضغط ممنهج”، لكنني أقول لك ان التجويع لا يمكن استعماله كورقة في التفاوض… التجويع هو حرب بحد ذاته، هو الامتداد الطبيعي لليد التي ضغطت على الزناد وألقت القذائف، ماذا يختلف أن تقتل جسدا برصاصة أو أن تتركه يتآكل حتى الجوع؟
لقد اعلن نتنياهو بصوت من يظن أنه يملي قوانين البقاء “لن تكون هناك وجبات مجانية، لن يكون هناك المزيد من المساعدات”. لكنه أخطأ الحساب، فغزة يكفيها كسرة خبز وماء ممزوجة بالصمود. هل تدري؟ وحدهم الذين لم يعرفوا طعم الحصار يظنون أن الموت بالجوع سيكون أسرع من الموت بالقنابل. الذين بقوا هناك، قد اعتادوا مفاجأة الجميع.
استخدام التجويع الجماعي هي خطة يتبناها الاحتلال بهدف الضغط السياسي على المقاومة، في انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني، وخاصة المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، التي تحظر استخدام المجاعة كوسيلة حرب … لكن من يبالي؟
بالتأكيد، لن يصدر أي بيان رسمي بهذا الخصوص عن القمة العربية، وهي لم توجه دعوة أصلا لفصائل المقاومة في غزة كحماس والجهاد الإسلامي. لن تعلن القمة العربية أن حياة الفلسطينيين في غزة باتت مجرد تفصيل هامشي، ولن تقر هذه القمة بأن الدم الفلسطيني لم يعد يُحسب خسارة. ولن تلوح حتى بعقوبات اقتصادية ضد الاحتلال. لن تتخذ القمة موقفا واحدا… لأن هذه الدول لم تكن يوما على قلب واحد.
بطريقة ما، هذا بالضبط ما سيحدث. الصمت … والتخاذل … والخطابات المنمقة. غزة تُقاوم وحدها، والعالم العربي يراقب، بلا حراك، فهذه المأساة لا تعنيه.
كان يمكن على الأقل التنديد بمعاناة المدنيين هناك وسط نقص الغذاء والماء والدواء. لكن لا، الأمر لا يسير بهذه الطريقة. لا توجد لحظة فاصلة يمكن أن تدفع الدول العربية إلى الاتحاد وفرض عقوبات على إسرائيل. ما يجري ليس وليد اليوم، بل عملية ممتدة منذ سنين باتت الآن اكثر وضوحا من أي وقت مضى.
ما الذي يسعى إليه نتنياهو اذا؟ إنه يماطل، يمدد، يناور. يريد الاستفادة من اتفاق وقف إطلاق النار دون دفع أي ثمن، يسعى لإطلاق سراح أكبر عدد من الأسرى الإسرائيليين دون تنفيذ المرحلة الثانية. الأهم من ذلك انه يريد إبقاء غزة خاضعة. نتانياهو يريد استرضاء اليمين المتطرف في حكومته، وخاصة سموتريتش، الذي يهدد بإسقاطه في حال القبول بأي انسحاب أو تهدئة حقيقية.
المشهد في اسرائيل أكثر تعقيدا مما يبدو. وزير الداخلية موشيه أربيل، يضغط على نتنياهو، ويطالبه المضي قدما في المرحلة الثانية، متخذا من البعد الديني والقومي حجة لاستعادة الأسرى. التصدع في حكومة نتانياهو يكشف عن صراع داخلي بين من يريد السير في الصفقة، ومن يرى في الحرب خيارا لا بديل عنه.
في المقابل، تدرك حركة حماس جيدا الآعيب الاحتلال. المراوغة الإسرائيلية لم تعد خافية، والوساطة الأمريكية ليست سوى غطاء يمنح تل أبيب المزيد من الوقت لإعادة ترتيب أوراقها. وموقف المقاومة ايضا واضح: الالتزام الكامل بالاتفاق، أو العودة إلى المواجهة. الحصار الغذائي هو محاولة أخرى لتركيع غزة وتجويعها كي تساوم على حقوقها. لكن غزة تعرف كيف ترد ولها ان تقول كلمتها: “لن نفاوض تحت وطأة الجوع”.
لكن ماذا عن موقف العالم الان؟؟ صرخات غزة تختفي وسط انشغالات العالم، تتواصل الحياة في جحيم الدمار وقطع المساعدات، وهناك تتلاشي الحدود بين الموتى والأحياء… هل تكفي كلمات التضامن؟ هل يكفي أن نقول: “يجب أن يتوقف هذا” بينما لا شيء يتوقف حقا؟
لا ينبغي الانخداع بالتضامن في “فيد” الأخبار على شبكات التواصل الاجتماعي. فالتعاطف هناك سريع الاشتعال، وسريع الزوال ايضا. تلك التغريدات الغاضبة، والمنشورات التي تفيض بالألم، والشعارات التي ترفع في المظاهرات سرعان ما تتلاشى ككل شيء. هذا هو منطق الطبيعة البشرية، أن يواصل المارة سيرهم، أن يتابع الإعلام جدول أعماله. وخارج شبكات التضامن الاجتماعي، في الحياة الحقيقية، كل واحد منا في عالمه، منصرف الى اعماله مشغول في شؤونه، بينما في غزة يجري انتشال طفل آخر من تحت الأنقاض… حتى في هذه اللحظة، نحن في عالمنا الخاص والمحاصرون هناك في عالمهم أيضا.
ما تحاول إسرائيل تحقيقه بالتفاوض، لم تستطيع تحقيقه بالقصف. صحيح أن العدوان دمر آلاف المباني وقتل عشرات الآلاف، لكنه فشل في كسر الإرادة الفلسطينية، ولم يحقق أي من الأهداف الاستراتيجية التي أعلن عنها نتنياهو في بداية الحرب. المقاومة صمدت وفرضت نفسها كطرف رئيسي في أي تسوية مستقبلية.
لو كان غسان كنفاني بيننا اليوم، لأعاد كتابة المأساة من جديد، عندما يصرخ أهل غزة ولا يسمعهم أحد، عندما يناضلون بشجاعة، وعندما يتحول العالم إلى خزان كبير بلا جدران تطرق، ولا آذان تصغي.
كان سيكتب عن أمهات يرفعن صور أبنائهن، عن أطفال تركوا وحدهم في مواجهة الموت، عن أيد صغيرة تبحث عن نجاة، وعن عالم يشاهدهم يغرقون، كما غرق رجال في الشمس تحت لهيب الصحراء، حين خذلتهم الشمس وخذلهم الصمت والتواطؤ.
مخطط التجويع في غزة يشبه الاختناق في تلك الشاحنة المغلقة، موت بطيء يفرضه الاحتلال والخيانة والصمت الدولي. يريدون أن تتحول غزة إلى خزان مغلق، وان يختنق سكانها، وهم يتساءلون في النهاية لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟…
يحل شهر رمضان هذا العام على غزة وسط حرب ابعد ما تكون عن الإنسانية. “صياما مقبولا وإفطارا شهيا”، هكذا يهنئ العالم بعضه البعض، لكن في غزة تصبح التهنئة دعاء للبقاء.
الافطار الجماعي على ركام المنازل في رفح يعكس مشهد المقاومة والاستمرار في الحياة… في غزة، على خلاف شخصيات “رجال في الشمس”، هناك ابطال لا تكتفي بطرق الجدران، بل تكسرها، تفتح الأبواب، وترفض انتظار الخلاص من الخارج.
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس