صبحي فحماوي: نقد روائي بلا مبادئ
الإنتشار العربي :صبحي فحماوي
تعريف: النقد الأدبي هو فن تفسير الأعمال الأدبية، وهو محاولة منضبطة يشترك فيها ذوق الناقد وفكره للكشف عن مواطن الجمال أو القبح في الأعمال الأدبية. والأدب سابق للنقد في الظهور، ولولا وجود الأدب لما كان هناك نقد أدبي لأن قواعده مستقاة ومستنتجة من دراسة الأدب.(ويكيبيديا)
أجور النقد: في غياب المكافآت المالية للكتابة والنقد، تغير عالم النقد، فالناقد الذي يشغل عقله ووقته في القراءة والتفكير والكتابة النقدية يحتاج إلى مكافأة مالية على جهوده الفكرية هذه، حيث أن كل إنسان يحتاج إلى نقود ليعيش هو وأسرته ويدفع مصاريفهم المتنوعة. وما دام قد تم تجفيف منابع الأدب والفكر بتوجيهات رأس المال المتوحش، فلقد أصبح النقد لا يتم بمهنية مدفوعة الأجر، وإنما بمزاج شخصي، أو كممارسة هواية، ليخدم قضيته، أو قضية صديقه، أو يعمل ضد قضية الشخص الآخر..
وهكذا انبثق أمامنا ما يسمى بالنقد المزاجي، والنقد المصلحي، والنقد الجهوي، والنقد الفئوي، والنقد الإقليمي، والنقد المذهبي، والنقد الحزبي، والنقد الشللي، ونقد المشاهير، وذلك ما لا يتسع الصفحة لتفسيره وتوضيح فحوى كل مذهب من هذه المذاهب الخارجة عن الترسيم.
العظمة
ملاحظة أخرى أن بعض النقاد لا ينقدون سوى نجيب محفوظ أو غسان كنفاني.. ولا يقف أحدهم إلا كتفاً لكتف مع شكسبير.قال لي أحدهم أنه عندما ينقد قمة من قمم الأدب، فهو يرى نفسه قامة لقامة مع هذا القامة العالية..صار النقد هنا إعلاماً للناقد وليس للرواية المنقودة..
وكلما جلس أحد هؤلاء النقاد غير المذكورين – لأنني لا أعمم- على مكتب ليمارس عمل النقد، نجده يتفاخر بذكر أحد أو كل هذه الأسماء النقدية مثل جيرار جينيت و/ أو تودوروف تزفيتيان، وأمبيرتو إيكو، ورولان بارت، فيعتقد الحضور أنه بهذه الأسماء يقتحم أتون النقد، ويؤكد كونه ناقداً عملاقاً..
التكرار
وهناك بعض النقاد يحفظون بعض تقنيات النقد، فهنا استباق، وهنا استرجاع، وهناك استدراج، وهناك موقف، وهناك حوار ، ومشهد.. تجدهم يحفظونها هكذا:- المكان- الزمن-تسريع الزمن- إبطاء الزمن- شخصيات الرواية- التناص- التراث- توظيف المأثور الشعبي- توظيف الموروث الديني- الأمثال- الاستدراك- الوصف-… لقد أصبح النقد آلياً.
وما دام ليس لدينا مدارس نقد عربية، فلقد صارت هناك “مدارس نقد بلا مبادئ”.
“تسليع الأدب”
وخلال العقود الأخيرة انتشر شيء من النقد تحت باب “تسليع الأدب” وهو أمر مؤسف، أو جريمة نقدية يشترك فيها كل من دار النشر والمبدع وبعض الدكاكين الثقافية، فما أن يصدر عمل أدبي حتى يسرع الكاتب أو الكاتب والناشر معاً إلى ظاهرة حفلات التوقيع، ويتبعه احتفال توزيع الأعمال، وهو ما لم يكن موجوداً بهذه الصورة، وتشارك دور النشر بالتزييف، إذ تكتب بعض دور النشر عنوانا يقول” أشهر 100 رواية عربية” أو “أشهر 100 رواية عالمية” بحيث تكون هذه الروايات مما تباع لديه، ويريد تسويقها. ترى من هي الجهة العلمية التي قررت أن هذه الروايات هي “أفضل مائة” أو الأشهر في عالم الرواية، سواء العربية أو الأجنبية؟
نسخ- لصق
وحسب مفهوم “نسخ -لصق”- (كوبي بيست) نقرأ لناقد ما كلاماً وتعبيرات مكررة عن رواية أو روائي، نجده يكرر تعبيراته التي يحفظها ويحتفظ بها ليكتبها لروائي آخر.هكذا يكتب: منتهى البلاغة..منتهى الجمال..الفكر الثاقب..شعرية النص الروائي..قمة الروعة.وتعبيرات كثيرة من هذا النوع، يكررها لكل عمل روائي، أو لكل روائي قيد النقد.
وبعض النقاد يجدون ضالتهم في ما يسمى “علم السرد” الذي أعطاهم أدواتهم التي يقرأون من خلالها كل أسبوع رواية، ويناقشونها خاصة عندما تأتي كاتبة رواية عربية أو كاتب عربي.. تجد أحدهم يقرأ الرواية في ليلة قدوم الضيفة أو الضيف، وبعد يوم أو يومين يجمع الجماعة، ويتحدث بإسهاب عن الرواية قيد البحث، كما ذكرت..روعة الروعة- قمة الأداء- سحر البوح.. جمالية الشكل.. والمضمون..وهكذا..مع العلم أن نقد رواية يحتاج إلى قراءتها مرتين أو أكثر، ووضع النقاط على الحروف لتبيان مداخلها ومخارجها، وإيجابياتها وسلبياتها، والجديد الذي قدمته هذه الرواية، بعد أن قال نزار قباني: “الحب ليس رواية عربية بختامها يتزوج الأبطال” ولهذا السبب الذي ذكره نزار، أصبح كثير من الروايات العربية مسطحاً بلا مواصفات كلاسيكية ولا حداثية ..وللخروج من هذه الإحراجات، وعدم وجود قيمة روائية للنص يقول لك الروائي إنه يكتب بأسلوب “ما بعد بعد بعد الحداثة”. يُبعِدون فيُستبعَدون.
كثرة وسائل الإعلام
نستطيع أن نقول أن هيمنة وسائل الإعلام الجماهيري على الحياة، وتعدد المنابر الإعلامية المتوفرة لكل من هب ودب، والصحف الورقية والإلكترونية التي تحتاج مواداً للنشر من دون أن تدفع أجوراً لأصحابها، أوجد سهولة الطبع والنشر من دون رقابة أو تقييم رصين، وهذا أدى إلى ضعف النقد العلمي أو الجاد، أو حتى غيابه في العقود الأخيرة” إذ يقول لك الطابع الناشر الموزع المسوِّق:” ادفع 1000 دينار أردني ونحن نطبع لك..ادفع 2000 دينار فسنطبع لك..ادفع 3000 دولار ونحن نطبع وننشر لك..وعندما تسأله: “هل تدققون الرواية قبل النشر؟” يقول لك: “وهل تتوقع أن لديك أخطاء وأنت مشهور بالكتابة المتميزة.. وتكون النتيجة أن تصدر روايات غاصة بالأخطاء..وذات يوم كتب العزيز فخري قعوار شفاه الله عن كتاب من منشورات وزارة الثقافة الأردنية لكاتب توفي أخيراً لا أريد ذكر اسمه، أنه قرأ في الصفحة الأولى فوجد أربعة أخطاء، وفي الصفحة الثانية وجد ثلاثة أخطاء، وفي الصفحة الثالثة خمسة أخطاء، ولم يستمر بالقراءة بل ضرب عدد صفحات الكتاب بمعدل أخطاء الصفحات التي قرأها، فتوقع أن تزيد الأخطاء عن ألف خطأ إملائي أو قواعدي..ناهيك عن الفن الإبداعي المقدم ، وعلّق العزيز فخري قعوار شفاه الله على ذلك النشر في مقاله أن كيف تصدر وزارة الثقافة كتباً بمثل هذه الأخطاء. وللحقيقة ليست وزارة الثفافة الأردنية وحدها في هذا المنحى بل إنني قرأت كتابين أحدهما طباعة وزارة الثقافة المصرية، والآخر للوزارة السورية، فكانت الصورة متشابهة تقريباً، ولا أعمم على كل الكتب من دور النشر المذكورة.
التجاهل
قرأت للصديق الروائي يوسف القعيد كلاماً منشوراً في صحيفة الرأي الأردنية أن لويس عوض كان يتجاهل أخاه رمسيس عوض في المناسبات..فتذكرت بيت طرفة بن العبد الذي يقول فيه:”وظلم ذوي القربى أشد مضاضة..على المرء من وقع الحسام المهندِ.”
وفي مجال التجاهل النقدي، دعيت ذات يوم لحضور ندوة لحديث ناقدة مشهورة عن الرواية في الأردن، فتحدثت عن كل من كتب رواية حتى لو كانت رواية واحدة..ولكنها لم تذكر أياً من رواياتي أبداً رغم أنني أكتب الآن روايتي الرابعة عشرة، ورواياتي منشورة في أشهر دور النشر العربية، ومترجمة للغة الإسبانية ومنشورة في اسبانيا، ومترجمة إلى الإنجليزية في كاليفورنيا..وأن مدير الندوة أجلسني بكل إصرار في الصف الأول المباشر أمام الناقدة الألمعية. قلت في نفسي: يا ناقدة؛ امدحي، اقدحي. قولي كما تبغين أن تقولي، ولكنها لم تبق الحصوة..
وذات يوم حضرت ندوة نقد قصصي، تحدثت فيها ناقدة صدرت لها مجموعة قصصية واحدة، وتمت طباعتها لأنها أصبحت موظفة بالواسطة في منصب أدبي هام، وكانت ندوتها بعنوان “القصة القصيرة في الأردن” فذكرت كل شارد ووارد من كتاب القصة الأردنيين ولم تستثن أحداً منهم، حتى صاحب قصة أو مجموعة قصصية واحدة، ولكنها لم تذكر قصصي أبداً، رغم أن لي تسع كتب مجموعات قصصية منشورة في عدة دور نشر مرموقة في الأردن ولبنان ومصر وسوريا. يا بنت الحلال- امدحي- اقدحي- أبداً.
النقد بالقدح:
وقرأت بالصدفة لناقد دكتور زائر من فلسطين حول روايتي” الأرملة السوداء” وهي رواية أدهشت كل من قرأها، وكُتبت عنها دراسات كثيرة من النقاد الأردنيين والعرب..وصدرت في طبعتين شهيرتين، كتب نقده في فيسبوك إلكتروني غير معروف، وقال فيه: إن هذه الرواية تحتوي على عشرة أخطاء..ذكرها بالترتيب، ولم يذكر ولو إيجابية واحدة لها، ومن ضمن ما أذكره أنني كتبت في الرواية (الرماثنة) فكتب : هذا خطأ..والصحيح أن تقول “الرمثاويون”.. يا عمي أنا ابن الرمثا وأولادي ولدوا في الرمثا وأعرف أننا نقول الرماثنة الذين نحن منهم..ولكن ذلك الدكتور الفلسطيني المحترم الذي لم يدخل الرمثا أبداً قال: “كلمة الرمثاويون هي الأصح”…
الإبداع النقدي:
من أجمل ما قرأت في النقد ما كتبه الأستاذ الدكتور العراقي محمد صابر عبيد، من أشهر أساتذة النقد الأدبي العرب، وربما يعمل الآن في تركيا، في روايتي “الحب في زمن العولمة” إذ قال: “ربما يقصد صبحي أن العولمة هي مرض، كما هو مرض الكوليرا..مقارنة بعنوان رواية ماكيز”الحب في زمن الكوليرا” فقلت له : إنك يا أستاذنا وصديقي العزيز أبدعت إذ وصفت شيئاً ربما لم يكن في ذهني وأنا أُدوِّن هذا العنوان..لقد أضفت شيئاً جديداً للرواية..فأحسنت لي وإليها.وهنا يكون الناقد مبدعاً والنقد إبداع.
نقد الحاقد:
وقبل النهاية، يا ويلك إذا نقدت ناقداً- فذات يوم أهداني ناقد مغربي مشهور رواية له، قرأتها فقلت له : لقد ابتدأت الشخصية الرئيسة لروايتك (الفلانية) باسم محمد، وانتهت باسم عماد. فهل نسيت تدقيق الاسم..كانت النتيجة أن حقد عليّ ذاك الناقد الروائي، الذي امتدح الجميع روايته بصفتهم يمسحون له جوخاً، إلا أنا الذي واجهته بالحقيقة فحقد عليّ. ولا أريد أن أذكر كيف انتقم مني.
ولمعرفة النقد الذي نريد أقول: أين هم نقاد-الستينات أمثال عبد الرحمن بدوي، وشكري عياد، ومحمود أمين العالم وطه حسين، وعباس محمود العقاد، وإحسان عباس، وعبد الملك مرتاض، ومحمد حسن عبد الله، وآخرين الذين كانوا ينقدون ويركزون على الأسلوب والفكر، واللغة، والخيال، والتجديد الذي قدمه النص، والدراما، والإبداع المقدم في الرواية أو العمل الأدبي.
وتوصيفاً لحالة النقد الحالي قال الروائي العراقي عبد الستار البيضاني: “إن حضور الاسم أكثر من حضور الإبداع يؤشر إلى غلبة العامل الاجتماعي على الإبداعي على عكس ما كنا نراه في العقود الماضية.”
نقد للتخديم لا للتقديم:
في حوار للصحفية سماح عبد السلام مع الناقد الروائي المصري محمد عبد المطلب في صحيفة الأهرام، قال: إن مشهد النقد العربي بلا طعم… بلا لون… بلا رائحة، وبات بعض النقاد موظفين محترفين وجدوا ضالتهم في ما يسمى علم السرد.. فصرنا نجد تياراً نقدياً يمكن القول عنه إنه حِرَفي، أي إنهم نقاد حفظوا بعض التقنيات وأصبحوا كالسباكين المتجولين، كل يدور حاملاً في حقيبته ثلاث أدوات أو أربعاً يصلح بها كل شيء.. لقد صارت حالة النقد اليوم بعد سيل الإصدارات الأدبية، واختلاط الحابل بالنابل مجرد نقد صحافي للتخديم لا للتقديم، نقد صحافي للمجاملة وللأسف هو يتضمن أسماء لامعة في الساحة الأدبية.