حضارة بيت العنكبوت وأزمة الأقزام المعجبين.. عودة إلى الدرس الألماني في قطر
الإنتشار العربي : كرايس الجيلالي
يقول الباحث جعفر الشيخ ادريس في كتابه صراع الحضارات بين عولمة غربية وبعث اسلامي: “العولمة اصبحت تتجلى في صورة حركة تغريبية بسبب التفوق الغربي وعدم تسامح حضارته مع الحضارات الاخرى”، اي ان الصراع اليوم هو صراع بين القيم وبين الثقافات وبين الاخلاق وبين الديانات لمجتمعات مختلفة، ولكل حضارة قيمها واخلاقها التي تسعى الى ان تجعل منها قيما ذات بعد كوني، فكل حضارة او امة تريد ان تكون هي التي تعرف الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وما على الشعوب الاخرى الا ان تقتبس وتتقمص وتنخرط في اللعبة، فهكذا يفكر الغرب كنطاق ثقافي، حتى تصبح تلك المجتمعات غربية حتى وان كانت تقع في قلب الشرق او حتى في ادغال افريقيا، فالنطاقات الثقافية تختلف تماما عن النطاقات الجغرافية، التي تعتبر صلبة وثابتة ومعروفة الحدود، بينما النطاقات الثقافية فسيالة وغامضة ومتحولة وسهلة الاختراق والتبدل، ولذلك هي اخطر من التمدد الجغرافي، حيث العدو واضح واليات التمدد واضح، بينما في اللعبة الثقافية نجد ان الكل يعيشه في وطنه لكن الاغلبية مسروقة من هذا الوطن هوياتيا وثقافيا عن طريق التقليد والاقتباس الحرفي للقيم والمعايير والاخلاق، بسبب تلك الهالة التي احاطها الغرب بنفسه وصدقه الكثير من ابناء الحضارات الاخرى غير الواثقين من حضاراتهم.
الغرب كحضارة وبشهادة الغربيين انفسهم يعاني ازمة ثقافية واخلاقية وقيمية رهيبة، لقد خسر الغرب الدين وخسر الله وخسر الانسان والاسرة والمجتمع، فلم تبقى الا اجساد تبيع أجسادا وتستثمر في اجساد، فكل شيء ادخل الى السوق واصبح له ثمن، حيث يقول العالم الاجتماع الفرنسي (إدغار موران Edgar Morin): “الرأسمالية تعرف ثمن كل شيء لكنها لا تعرف قيمة اي شيء”، والغرب بطبيعة الحال هو مجتمع رأسمالي اقتصاديا وقيميا وثقافيا، فكل شيء معد للاستهلاك وللحصول على المتعة الانية، فقد انهارت كل مؤسسات الغرب الاجتماعية، واهم شيء هو انهيار الدين وعيش الغرب بلا وازع اخلاقي، هي ثقافة لم تحل ابدا مشكلات الغرب بل هي في كل يوم تخلق معضلة جديدة، اذ يقول (جاني فاتبمو Gianteresio Vattimo)في كتابه نهاية الحداثة: “إن الله في العالم المعاصر مات ولكن امور الانسان ليست على ما يرام” وهذا ما يعيشه الغرب اليوم الذي الصق كل خيباته في الدين وقرر منذ عصر الانوار ان يقصي الله من المجال العالم او هكذا خيل اليه، ولكنه اليوم يعيش ازمة وجودة خانقة، حيث خسر كل شيء في معركة الحضارة، بينما كسب تكنلوجيا فائقة ومتطورة لكنها لا تستطيع ان تغني عن الروح والسلام الروحي شيئا، ولذلك هو اليوم يريد تعميم تجربته الخائبة عن طريق نشر قيم التفسخ والانهيار الاخلاقي تحت مسميات عدة، من بينها حقوق الانسان وغيرها من الحقوق التي تتأفف عنها حتى البهائم، اذ يقول (دنيس سميث Denis Smith)في كتابه الاجندة الخفية للعولمة: “أنه من المستحيل أن تدمر الناس وانت تحترم قوانين البشرية” او لنقل وانت تحترم الخصوصيات الثقافية
ما حدث في بداية مباراة المانيا واليابان من تصرف غير اخلاقي من جهة ومن جهة اخرى لا يحترم ادب الضيافة ولا يحترم خصوصيات المجتمعات التي من حقها ان ترفض ما يتعارض مع قيمها، لكن عقيدة الغرب وعقيدة التفوق وازمة لا اريكم الا ما ارى جعلت المنتخب الالماني بإعزاز من طرف حكومة بلاده ومن قوى الشر في العالم، يقدم على إشهار شذوذه الجنسي وتخلفه البشري، وانتصاره لقضية تجعلك تتقيأ من مرتكبيها، وكل هذا كان دون مراعات لأي مجتمع اخر وقيمه واخلاقه، فحتى المنتخب الياباني الملحد تصرف بأدب واحترم خصوصيات المجتمع المضيف ذو الثقافية الاسلامية، ولم يفكر في نصرة فقضية خاسرة ثقافيا واخلاقيا، لكن الالمان ومن خلال عقدة الاستعلاء الثقافي على حد تعبير الباحث سعيد المصري جاؤوا ليعبروا عن تضامنهم مع مجتمع قوم لوط، مجتمع المراحيض والإجرام والتشوه الفطري، لكن صدام الحضارات وصراع القيم حتم على مجموعة من الشباب ان تضع نفسها في فوهة البركان الحضاري للدفاع عن حضارة في زمن الافول، حضارة اصبحت اليوم اوهن من بيت العنكبوت، حيث اصبح الفرد هو المهيمن داخل المجتمع الغربي، وانهارت كل الروابط الاجتماعية المعروفة، وظهرت روابط جديدة تقوم على البيع والشراء والرغبة والاستهلاك لا اكثر ولا اقل، وهذا ما يسعى الغرب الى تعميمه وهو يفعل المستحيل من اجل ذلك، ومن غريب الصدف ان نجد مفكرا بحجم (صامويل هينتنجوتن Samuel Phillips Huntington)يحدد مصادر الخطر الذي يهدد الحضارة الغربية في كل من الاصولية الاسلامية والخطر الاصفر، لنجد أن لحظة الصدام كانت بين الفريق الألماني الغربي والفريق البياني الاصفر وعلى ارض الاسلام اي في دولة قطر، لحظة لخصت كتاب صدام الحضرات واشارت الى ان الامم اليوم لم تعد تخشى من الاسلحة النووية بقدر ما تخشى من الاسلحة الثقافية حيث ترى (جان ندرفين بيترس Jan Nederveen Pieterse) في كتابها العولمة والثقافة المزيج الكوني: “أن صدام الحضارات يشير الى ان الفروق الثقافية ثابتة ومولدة للتنافس والصراع” وان الشعوب اليوم مطالبة بان تحمي هويتها كما هي مطالبة بان تحمي حدودها.
مشكلة الغرب الذي اختار طريق اللادينية او تكيف الدين حسب رغبات الزبائن الدينيين وليس حسب تعاليم الله، نجده يريد تعميم هذه النظرة على كل شعوب المعمورة، رغم الخيبات التي يعاني منها الغرب، مثل انتشار التفسخ والانهيار الاخلاقي وانهيار مؤسسات المجتمع، مما ادى الى صعود اليمين المتطرف والحركات الاصولية التي تريد الحد من السقوط الحضاري الذي دشنه الغرب، حتى فقد هويته وتحول الى مسخ مخيف تحكمه الشهوة في صورتها الهمجية والمتوحشة، لكن رغم ذلك لا يريد الغرب ان يتوب بل يريد ان يجر الجميع معه الى أتون الخسران والانهيار، غير ابه بمعنى الحضارة والثقافة التي تعتبر مكتفية على نفسها وهي ليست بحاجة للاقتراض او الاقتباس من حضارة اخرى، كما ان لكل حضارة هوى وروح لا يمكن ان تساوي او تعادل روح الحضارة الاخرى وهذا ما اشار اليهم هينتنجونتن في كتابه صراع الحضرات اذ يرى: “أن هناك عدة حضارات وكل حضارة متحضرة على طريقتها الخاصة” اي كل حضارة هي انموذج قائم بذاته يمكن ان يقترض ادوات صناعية تكنلوجية لكن لا مجال لاقتراض الهويات، لكن هذه معضلة لا يعيشها الغرب فقط، فحتى اقزام حضارتنا من بني جلدتنا المنبهرين بالغرب وقيمه يرفضون حتى تصفية الثقافة الوافدة واخضاعها لمنطق الغربلة عند بوابة الرقابة، ويصرون على ان يكون الاسقاط حرفيا لكل وافد من الغرب، مهما كان شكله وتأثيره على المحلي، وربما هذا ما اشار ليه (زيجمونت باومن Zygmunt Bauma) في كتاباته التي تناولت السيولة واثرها على الهويات والمجتمعات التي امنت بالحداثة، اذا جاء في كتاب الشر السائل أن الحداثة وعدت بتحكم الانسان في قدره، لكنها لم تفي بالوعد حيث صعد لاهوت الشر واصبح دين الناس وتوارى الخير ومعاني الايثار والفضيلة والتضحية كتجليات لا عقلانية على الاغلب.
ان الغرب اليوم اصبح مصدرا للشرور والانحرافات العقدية والاخلاقية والقيمية، وانه يعمل بطريقة جد مدروسة على تعميم اليأس وان لا خيار للشعوب سوى قبول مصيرها وتبني القيم العالمية او خروج من دائرة التحضر، وهذا ما يسميه باومن بفكرة اللابديل التي يريد الغرب فرضها عنوة على البشرية حتى تتقبل قيمه المخزية، مستعينا بنخب فارغة تعرفها مجتمعنا حيث تستهلك كل ما يأتي من الغرب وتروج له، وترفض كل ما انتجه هي، وتراكمه عبر السنين، بعد ان اقتنعت بدوغما تفوق الغرب ودوغما ضرورة النقل منه، حيث ان هناك سعيا حسب باومن وزميله لونيداس “الى جعل العالم يعتقد ان قدرنا حتمنا في انتشار الشر والخوف واللابديل، بل اصبح من الجنون توقع وجود بديل للنموذج السائد لا مكان للتفاؤل والابتهاج بغد افضل، هذا ما يسعى الشر السائل الى غرسه في النفوس”، لا سيما تلك النفوس التي هيئة نفسها للعبودية وتنكرت لقيمها وذاتها الحضارية، وقبلت الاقتباس من الشعوب الاخرى، حتى وان كانت تقتبس وبالا على نفسها وعلى الاجيال الصاعدة، فماذا بعد تعميم الشذوذ وقبوله وتقبله؟ الا الخراب والدمار وانهيار الأسرة وضرب النسل البشري في الصميم، حيث يفقد الزواج معناه ويتحلوا الى مجرد رغبة جنسية يمكن اشبعها مع اي شيء كان وهنا الكارثة، حيث اصبح هذا النموذج عالميا ويجري الترويج له وفي كثير من الاحيان فرضه على الهويات والحضارات الضعيفة عنوة، التي تعاني من خلل حضاري، فالغرب كثقافة كان يسعى الى نشر قيمه عن طريق بطولة عالمية، وتخيير الشعوب المستضيفة بين منحها شرف التنظيم مع الترويج القيمي وبين الحرمان، لكن يبدوا ان ظروف العالمية اعطت قطر كدولة منظمة نوعا من هامش الحرية للحد من حدة الزرع الثقافي، الذي كان سيمارس من خلال تلك التظاهرة عن طريق عملية الاتصال والتواصل اذ يرى باومن في كتابه الحب السائل وعلى لسان المبشر الانجيلي نود لوغتروب ثمة انحرافين متباينين يرتبطان بالطرف الغافل او الساهي اثناء عملية التواصل الاول محاولة الارضاء وتجنب فتح المواضيع الهامة بهدف الحفاظ على العلاقة، والثاني الرغبة في تغير الناس واقناعهم بالطريقة التي نتصرف بها.
اي ما علينا ان فهمه، هو ان الغرب كثقافة وحضارة واخلاق قد وصل الى مرحلة الافول ولذلك يجب الحذر من منتجاته والرد عليها قيميا وحضاريا، وان لا نقوم بدور المستهلك النهم، الذي لا يفرق بين المنتجات الصالحة للأكل وتلك المنتهية الصلاحية، وهذا ما يبدوا انه قد بدأ بالتجسد فعلا حيث ان الغالبية اليوم اصبحت تفرز المنتجات الثقافية قبل الاقبال عليها، ومن جهة اخرى لا بد من التخلي عن عقلية الاقزام الثقافية، لان ظاهرة التقزم الثقافي تعني الفناء والزوال من على سطح الارض كأمم وكحضارات وثقافات لها كامل الحق في العيش، فحسب باومن “الاخلاق جزء من البقاء وربما شرط لا غنا عنه من اجل البقاء” وعلينا أيضا ان نجهر بأخلاقنا في وجه الامم الاخرى، وعلينا ان لا نقبل منها كل ما تملي علينا، وذلك عن طريق دخول المواجهة الحضارية التي لا تتطلب منا جيوشا جرارة واسلحة من الجيل الرابع، فقط تتطلب منا الصمود الثقافي والاعلان عن هويتنا جهارا نهارا والصدع بالدعوة اليها، ورد كل الثقافات الاخرى لا سيما تلك التي تتعارض مع فطرة الانسان.
كاتب جزائري