تايوان الإقليم الصيني المتمرد
يقال انه عندما دشن كسينجر ورئيسه نيكسون “فتح الصين،” وتبنت الولايات المتحدة سياسة الانفتاح عليها، والتزمت الإدارات الامريكية المتعاقبة سياسة “الصين واحدة،” التفت كسينجر الى رئيسة مهنئا بقوله: “سيدي، بعد عشرين عاما علينا ان نفعل الشيء نفسه، ولكن معكوسا.” القصد من وراء هذا الكلام ان امريكا نجحت بإبعاد الصين عن الاتحاد السوفياتي للتفرد به وهزيمته، وعليها ان تعيد الكرة مستقبلا، ولكن هذه المرة بإبعاد الاتحاد السوفياتي (روسيا الان) عن الصين لمحاصرتها وهزيمتها.
نظرة فاحصة لما ينفذ من استراتيجيات امريكية نحو الصين نراها تتخبط بين اتجاهين.
يقول الاتجاه الأول الذي وضعه هنري كسينجر من الحزب الجمهوري، انه يجب منع التقارب الروسي الصيني، لما يمكن ان يشكل ذلك من خطر على موقع ومصالح الولايات المتحدة. بحيث يتم التفرد بكل واحدة منها على حدة، وتحييد، او حتى الحصول، على دعم طرف ضد طرف. وقد رأينا كيف كان الرئيس ترامب، تلميذ كيسنجر النجيب، يتصرف على هذا النحو بالتقارب لروسيا، وتركيز هجومه على الصين. وبحسب هذ الخطة يتم محاصرة الصين، وضبط تقدمها وارتقائها وصد قدرتها على منافسة الولايات المتحدة على الموقع الأول عالميا. وقامت قائمة الحزب الديمقراطي ضد هذه الاستراتيجية، واتهم ترمب بأنه عميل لروسيا وذنب لبيوتين الذي يتحكم به، واستعمل الحزب كل الوسائل الممكنة في ضع العراقيل لمنع نجاح هذه الاستراتيجية. والسبب هو ان الحزب الديمقراطي يتبنى في سياسته الخارجية استراتيجية بريجنسكي، مستشار الامن القومي خلال رئاسة كارتر.
واتجاه بريجنسكي، المتشدد تجاه الاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا حاليا، يعتبر ان روسيا هي الخصم الأساس، الذي يشكل تهديدا وجوديا للولايات المتحدة، فيجب إبقاء روسيا تحت المراقبة والحصار الدائمين، وعزلها عن أوروبا، ومنع تطورها وارتقائها، وابقائها ضعيفة تعتمد على الغرب. اما الصين فلا تشكل خطرا وجوديا، والتعامل معها يلتقي مع اتجاه كيسنجر، اي اعتماد أسلوب تنافسي سلمي مبني على المصالح المشتركة، وبنفس الوقت وضع قواعد للاشتباك معها واستمرار الضغط عليها من عدة نواحي، كحقوق الانسان وقوانين التجارة العالمية والاقتصاد، وتقوية التحالفات الإقليمية ضدها، خصوصا اليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا لمحاصرتها، وفي المركز من كل هذا ورقة تايوان.
وتايوان، هذه الجزيرة الصغير التي لا تتعدى مساحاتها 36 ألف كيلو متر مربع، وعدد سكانها لا يتجاوز أربعة وعشرين مليون نسمة، هي قضية اساسية تشغل وتحتل العقل والوجدان الصيني بشكل كبير. ثمة قصة تروى عن أهمية تايوان للصين الشعبية، انه خلال المفاوضات بين كيسنجر وتشوان لاي، رئيس وزراء جمهورية الصين الشعبية، اعد كيسنجر ست ملفات كبيرة للنقاش، من البيئة والمناخ الى الاقتصاد والتجارة العالمية وقضايا التسلح النووي. بدأ كيسنجر بالحديث وتشوان لاي يستمع الى ان أنهي، التف عندها تشوان لاي اليه وقال، اما نحن فعندنا قضية واحدة، تايوان. تعتبر هذه الجزيرة الصغير حجما في هذا الوقت من اهم بقع العالم لأسباب استراتيجية، واقتصادية، وسياسية.
كانت تايوان منذ انتصار الثورة الشيوعية بقيادة ماوتسي تونغ عام 1949 وهزيمة قوات تشيانغ كاي شك القومية، وتراجعها الى جزيرة تايوان وإعلان دولة لها هناك، قد جاهرت انها تمثل كل الصين. وأعلنت حكومة الصين الشعبية انها الوحيدة التي تمثل كل الصين، وان تايوان هي جزء من الصين الشعبية الموحدة، وأنها ستعيدها الى سيادتها مهما طال الزمن. كانت جمهورية الصين القومية في تلك الفترة تجلس على مقعد الصين في الأمم المتحدة منذ تأسيسها عام 1945.
وهكذا أصبح هناك حكومتين متنافستين على تمثيل الصين. في البداية رفضت الولايات المتحدة، خصوصا اثناء الحرب الكورية والحرب الباردة، ان توافق على استبدال جمهورية الصين القومية المتمركزة في تايوان بجمهورية الصين الشعبية لتمثل الصين في الأمم المتحدة. استمر هذا الوضع حتى عام 1971، حين قررت الولايات المتحدة انتهاج سياسة انفراجيه في علاقتها مع جمهورية الصين الشعبية، أدت إلى صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2758، الذي قضى بطرد جمهورية الصين القومية (تايوان) من مجلس الأمن، وإعطاء المقعد لجمهورية الصين الشعبية. وفي عام 1979 قامت الولايات المتحدة بقطع كل العلاقات الدبلوماسية مع تايوان وإلغاء اتفاقية الدفاع المشترك بينهما. ولكنها لم تتخل عن ورقة تايوان لاستعمالها في الضغط على الصين حسب الحاجة، واتبعت معها سياسة “الغموض الاستراتيجي،” كما يحصل الان من خلال الزيارة المتهورة لرئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، وتظاهر إدارة بايدن باعتباطية بانها متمسكة بمبدأ “الصين واحدة،” وتتبرأ من زيارة بيلوسي.
تنبع أهمية تايوان للصين والولايات المتحدة وعلى المستوى العالمي من الأسباب التالية:
استراتيجيا: ان الموقع الاستراتيجي للجزيرة مقابل البر الصيني بحوالي 160 كم، حيث تعتبر المساحة البحرية المتشكلة بينهما مضيقا مائيا مهما جدا، يربط ما بين بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، وممرا حيويا لكل السفن المبحرة من والى موانئ شمال شرق قارة اسيا. بالإضافة الى ان معظم الاعداء الذين هاجموا الصين استخدموا جزيرة تايوان كقاعدة لهم كاليابان مثلا، التي كانت تحتل الجزيرة حتى خسارتها الحرب العالمية الثانية، واضطرارها لإعادتها الى جمهورية الصين القومية، التي كانت جزءا من محور الحلفاء الذين كسبوا الحرب. وتأخذ الأهمية الاستراتيجية للجزيرة بعدان اضافيان، البعد الأمني والعسكري. وليس أفصح مما يعنيه ذلك ما قاله الجنرال الأمريكي المشهور، آرثر، بأن تايوان “حاملة الطائرات التي لا يمكن اغراقها.”
اقتصاديا: بالإضافة الى الأهمية الاقتصادية البالغة لمضيق تايوان المائي، كمعبر للسفن والشحن كما أسلفنا، هناك سبب اخر بالغ الأهمية لتايوان في الاقتصاد العالمي، وبشكل خاص للولايات المتحدة والصين. فتايوان تحوز على النصيب الأكبر في صناعة وتصدير الرقائق الإلكترونية المتقدمة، التي تستعمل في الصناعات الدقيقة والمتطورة كالصنعات الفضائية والأسلحة المتطورة والذكاء الصناعي وتكنولوجيا جي 5، وكل الصناعات التي تحتاج الى مستو عال من هذه الرقائق الإلكترونية الفائقة الدقة والسرعة، التي ستحدد معالم العالم القادم.
لكي تستطيع كل من الصين والولايات المتحدة ان تنشئ مصانع وتدرب كوادر لصنع مثل هذه الرقائق، فسوف تحتاج الى سنوات عديدة لما يتطلبه ذلك من مستويات عالية في التعقيم والدقة والخبرة. استطاعت تايوان ان تبني كل ذلك على مر السنين، وان تدخل في شبكات دقيقة لاستيراد المواد الخام وتصدير الرقائق الإلكترونية، واي انقطاع او ارتباك في عمل هذ الشبكات سيعم تأثيره وضرره على العالم اجمع، الذي أصبح معتمدا بشكل كلي على الرقائق الإلكترونية في جميع تفاصيل الحياة. نظرة فاحصة على تأثير جائحة كورونا في هذا المجال، حيث شحت هذه الرقائق الالكترونية في الاسواق وارتفعت اسعارها بشكل أدى، على سبيل المثال، الى ارتفاع أسعار السيارات بشكل خيالي.
عملت الولايات المتحدة بشكل دؤوب على اقناع تايوان بفتح مصانع لها على الأراضي الامريكية بتقديم اغراءات كبيرة. وكانت الشركة الأكبر في العالم، شركة تايوان لصناعات الرقائق الإلكترونية* (تي اس ام سي) تعتقد ان هذه الرقائق هي ضمانة استقلال تايوان، لان “درع السيليكون،” كما يسمونه، هو الذي يحميها من الطرفين المتنازعين، حيث سيقف كل طرف بوجه الاخر لمنعه من التحكم بهذه المنتج الحيوي للتقدم والسيطرة التكنولوجية على العالم، الا ان هذه الشركة وافقت على أنشاء فرع لها برصيد 12 مليار دولار تموله الولايات المتحدة في ولاية اريزونا لصناعة الرقائق الإلكترونية المتقدمة. وبدا من تصريحات قيادات الشركة للإعلام انها ليست مرتاحة للانحياز لاي من الطرفين في هذا النزاع، ولا لمحاولة الولايات المتحدة نقل المصانع الى اراضيها، وتحكمها بالنتيجة بصناعة الرقائق الإلكترونية المتقدمة. هذا وقد سن الكونغرس الأمريكي قانون “الرقائق الإلكترونية والعلم” الذي يحتوي على رصد 52 مليار دولار لدعم صناعة الرقائق الإلكترونية وللدفع بهذا الاتجاه.
بهذا تكون تايوان قد اكتسبت بحق صفة اهم مناطق العالم. فالصراع يزداد حدة عليها باحتدام التنافس بين القوتين العظمتين في حرب الرقائق الالكترونية، الولايات المتحدة المتراجعة، والصين المتقدمة والتي تتحضر لقيادة العالم. وللإشارة الى أهمية موضوع رقائق تايوان الإلكترونية امريكيا، كان أحد اهم البنود على جدول اعمال زيارة بيلوسي الى تايوان، اللقاء مع مارك لوي، رئيس إدارة شركة (تي اس ام سي)، التي تعتمد عليها الولايات المتحدة اعتمادا كبيرا في هذا المجال. وكان هدف بيلوسي من هذا اللقاء هو تشجيع الشركة على التعاون مع الولايات المتحدة في مجال الرقائق الإلكترونية من خلال انشاء فروع لمصانعها في امريكا، والطلب من الشركة ان تتوقف عن تزويد الرقائق الإلكترونية المتقدمة للشركات الصينية.
سياسيا: ان كيفية التعامل الامريكي مع تايوان يشكل بحد ذاته رسالة مهمة الى حلفاء أمريكا في المنطقة، الذي بات القلق ينتابهم من التراجع الواضح للولايات المتحدة، وبدأ الشك يعتريهم من افول قدرة أمريكا على حمايتهم في مواجهة قوة الصين المتصاعدة اقتصاديا وعسكريا، وخصوصا اليابان وكوريا الجنوبية. اما الصين التي تعتبر تايوان جزءا عضويا من جسدها الوطني، وتعتبر أي تدخل في شؤونها تدخلا في الشؤون الداخلية للصين واعتداء على سيادتها واستقلالها وكرامتها الوطنية، وانه لا خيار اخر لها الا استرجاع الجزيرة المتمردة الى الحظيرة الوطنية الصينية.
لا يعني هذا ابدا ان الصين تريد او ترغب في استعمال الوسائل العسكرية لغزو تايوان، وان كان الخيار العسكري دائما على الطاولة. كل الدلائل تشير الى ان الرغبة الصينية تريد ان تحافظ على تجربة تايوان الاقتصادية الناجحة، وتعتبرها قيمة مضافة كبرى ستساعدها على تسريع المسار الذي ستصبح الصين بموجبه الدولة الأكبر عالميا بحجم الناتج القومي. فبلا شك ان الصين ستضم تايوان الى البر الصيني الام، ولكن ليس غزوا، بل بالمحاصرة السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والجغرافية. وتحقق بذلك استسلام تايوان دون ان تطلق طلقة واحدة. ومن يعرف الصين وطريقة تفكيرها وعملها يعرف انها تتصرف في الصراع حسب قوانين “صن تزو،” فيلسوف الحرب الصيني، ان تحارب وتربح كل معاركك ليس مهارة، ان تكسر عدوك دون حرب هو المهارة. الصين لن تبادر بحرب الا إذا كان خيارها الأخير في الدفاع عن النفس. وها هي قد التقطت الفرصة الذهبية التي زودتها بها زيارة بيلوسي، وكثفت من الحصار على تايوان بشكل يبدو وكأنه رد على الزيارة الاستفزازية، بينما كانت بالفعل تستعد للحظة المناسبة.
نتيجة الصراع الصيني الأمريكي سيساهم في إرساء نظام عالمي جديد متعدد القطبية، وتايوان ورقائقها الإلكترونية في قلب هذا الصراع. ويبدو ان إدارة بايدن تقوم بسياسة الولايات المتحدة المعتادة باختلاق المشاكل والفوضى واستخدامها لتحقيق أهدافها، كما يحصل في منطقتنا العربية بالفوضى الخلاقة، وهذا لن يجدي ولن ينجح مع الصين، تماما كما لم ينجح ذلك ضد محور المقاومة. وستنجح الصين بالنهاية في ضم او انضمام تايوان اليها سلميا، كما تم مع “هون كونغ” و”مكاو” اللتان كانتا مستعمرتين سابقتين لبريطانيا والبرتغال.
لقد عاف العالم وسأم من هيمنة وتحكم وتسلط الولايات المتحدة. ويأتي الرد الصيني المؤثر والمدروس في التعامل مع العداء الأمريكي بِنَفَسْ الصبر الاستراتيجي لتحقيق ما تريد، ليس فقط تحرير تايوان، بل بالتعاون مع القوى الراغبة الأخرى، بتحقيق عالم متعدد الأقطاب، نأمل ان يكون خطوة باتجاه العالم الإنساني الذي نحلم به جميعا، من انتشار العدل والسلام والرفاهية للإنسانية جمعاء.
*Taiwan Semiconductor Manufacturing Corporation