الكرة تلخص كثير من المفارقات التي تعيشها مجتمعاتنا العربية.. المغرب نموذجا
الإنتشار العربي :دكتور طارق ليساوي
خلصنا في مقال “عدوى التنمية” وميكامزمات انتقالها.. ولماذا أرى أن العدوى ستنتقل في العقد القادم لعالمنا العربي و الإسلامي..؟ إلى أن الصين التي أصبحت اليوم مصنع العالم و القوة العظمى التي تكتسح الساحة الدولية، كانت عند مطلع القرن العشرين عشرات الأقاليم المفككة، التي يحكمها أمراء الحرب. وبذلك، لم تصبح مطمعا لليابان فقط، لكنها كانت مشاعا تنافست عليه الدول.. ونتيجة لهذا الإذلال و التفكك، شكلت وحدة البلاد البرنامج السياسي الذي وحد جميع أطياف و مكونات الشعب الصيني و لسنا في حاجة للعودة لحركة 4 مايو التي كان لها بالغ الأثر في إسقاط الحكم الإمبراطوري، و توحيد جهود مختلف القوى للتحرير والتحديث ..
وعندما أحلل تجربة الصين و نجاحها في الانتقال من القاع إلى القمة و تجاوز عصر الإذلال أشعر بالتفاؤل أن عدوى التنمية ستصل إلى عالمنا العربي والإسلامي، خاصة و أن مجتمعاتنا تعيش وضعا مشابها – إلى حدما- لما عاشته الصين في مطلع القرن 20، و بدورنا سوف نخرج من حالة الغثائية و دورة العمران تقترب بالتدريج و الخروج من الحدارة إلى الحضارة قريب لا محالة، لكن الحلقة المفقودة هي غياب القيادة الرشيدة القادرة على قيادة التغير و توظيف الإمكانيات و الفرص والموارد لصناعة النهضة و الصعود باتجاه منطقة الضوء..لكن تحقق هذا التفاؤل والأمل مقترن بتوفر مجموعة من الشروط والعوامل التي ينبغي تحقيقها للخروج من دورة الإنحطاط والتفسخ والتفكك و لعل ذلك ما حرصت على شرحه بتفصيل في كتبي ذات الصلة بالنموذج التنموي المنشود بأجزاءه الثلاث..
وقد بدأنا هذه المقالات بالرغبة في تناول احتجاجات بعض المدن الصينية ضد “سياسة صفر كوفيد”، لكن أجواء مونديال قطر خيمت على ما أكتب هذه الفترة..
لذلك، سأرحل بك مجددا إلى أجواء الكرة المستديرة، و فوز المنتخب المغربي يوم 01-12-2022 على المنتخب الكندي ب 2-1، و نجاح هذا المنتخب في العبور للدور الثاني، وهو بحكم الواقع الكروي الممثل الوحيد والفريد للشعوب العربية في ما تبقى من تصفيات مونديال قطر ..
فالكاتب كملايين المغاربة والعرب شعر بالفرحة بفعل تأهل المنتخب المغربي للدور الثاني، و نجاحه في التفوق على بلدان متقدمة وتسبقنا تنمويا بسنوات ضوئية، و كم كنت اتمنى لو اننا فعلا انتصرنا على الفقر و العوز و البطالة و الحكرة والغلاء والفساد والاستبداد…
وكما يقال بالدارجة المغربية “سبع أيام ديال الكرموس ستنتهي” – مثل شعبي مغربي مفاده أن الموسم قصير جدا – ، و ستخرج الغالبية من سحر الكرة ووهج النشوة بهذا الفوز الكروي، سينتهي مونديال قطر ، و لكن ستستمر معاناة كثير ممن نراهم يملؤون المقاهي و يصرخون في الشوارع ابتهاجا بهذا النصر الكروي..الفرحة بهذا النصر فرحة زائفة و ناقصة لأني أدرك أن هناك معتقلي الرأي و حرية التعبير في سجون هذا الوطن الجريح و أخرهم الأستاذ محمد زيان الوزير السابق و المحامي و السياسي المخضرم، كم جميل لو أن هذا النصر الكروي ، توج بمصالحة سياسية وطنية و تصفير السجون من معتقلي الرأي و نشطاء الإحتجاجات الشعبية، و المطالبين بالحق في العيش الكريم و الحق في التطبيب و الشغل و التمدرس..و إني على يقين بأنهم من داخل زنازنهم يشعرون بالفرحة بهذا النصر الكروي لكن فرحة يختلجها الأسى و الحزن و الإحساس بالظلم و”الحكرة” ..
و أعتذر للقراء مسبقا ، فما سأقوله سيذهب على البعض سكرة الفوز ، و سيصفني البعض بالعدمية و بإدخال السياسة في الكرة، و لعله لا يعلم أن الكرة يتم توظيفها سياسيا من قبل الحكومات و بخاصة المستبدة لتغطية عن سياساتها و فشلها التنموي و عجزها عن تحقيق انتصارات حقيقية على الأرض نرى أثرها في توسيع خيارات الناس و تحسين ظروف عيشهم ..
فالكرة مهما نفخنا في حجمها إعلاميا و إنفاقا تظل مجرد لعبة، و التحدي الحقيقي أن ننتصر في ملعب التنمية و أن ننجح في تحسين مستوى الأداء الاقتصادي، و تسجيل نقاط متقدمة في مرمى مؤشر التنمية البشرية. كما فعلت الدول التي هزمناها كرويا في هذه الايام…فإذا كان المغرب الفائز أو المتعادل في المباريات الثلاث يحتل الرتبة 123 على سلم التنمية البشرية، فإن كندا التي هزمناها ب بهدفين مقابل هدف واحد تتفوق علينا بحوالي 100 درجة، فهي تحتل الرتبة 16 في هذا السلم التنموي، أما بلجيكا التي فزنا عليها بهدفين نظيفين فهي تحتل المرتبة 14 ، أما كرواتيا التي تعادلنا معها في المباراة الأولى فهي تحتل المرتبة 43 في سلم التنمية البشرية..
فالكرة مجرد لعبة و تسلية لا يمكن الرهان عليها لتحقيق تنمية أو نهضة، وإنما يتم توظيفها بشكل مدروس لتخدير الشعوب و تلهيتها عن ما يهمها حقا… وعلاقة الكرة بالمجتمع و اختلالاته و نواقصه، و مما يثير الاهتمام و الانتباه، خاصة و نحن نتابع موقف النخب السياسية سواء التي في السلطة أو المعارضة، و كيف أن من كانوا بالأمس في كراسي المعارضة، بمجرد أن وصلوا لمواقع الفعل و “التهديف” تغيرت مواقفهم..و لعل هذا الانقلاب هو نفس ما نراه في أداء اللاعبين فعندما يشاركون في أنديتهم “الأروبية” يسجلون نتائج أفضل و يظهرون لياقة و كفاءة أفضل مما يبدونها عند مشاركتهم في المنتخبات الوطنية…
هذه المفارقة تقودنا إلى مفارقة أكبر و هي العلاقة بين المجتمع و الدولة، بين المعارضة و الحكم، فنحن نلاحظ أن هناك شخصيات و هيئات سياسية كانت لها مواقف سياسية قبل الالتصاق و الانخراط في المؤسسات العمومية، لكن بمجرد الولوج إليها تغيرت المواقف و التوابث، فهل هؤلاء يحق عليهم القول الشعبي ” قلب المعطف” ، لماذا المعارضة تتغير بمجرد دخولها لملعب الحكم، وقد رأينا ذلك في أغلب بلدان الربيع العربي…؟؟و نحن نتابع موقف الجمهور الرياضي المتفرج، نتساءل إلى متى تبقى النخبة المثقفة في موقع الناقد، أو بالأحرى في موقع المنسحب من مؤسسات الفعل السياسي المنظم و القانوني؟ و الإكتفاء بالاحتجاج القطاعي ” كل يضرب على عراموا”، فعندما يتأذى قطاع التعليم يخرج رجال و نساء التعليم للإحتجاج، وعندما يتأذى المحامون يخرجون إلى الشارع و نفس الأمر بالنسبة للأطباء و هلم جرا..و الأمر غير محصور في النخبة بل يشمل عموم الشعب، فالغالبية منسحبة و غير مهتمة بالشأن السياسي، فالشعوب العربية في الغالب غير مهتمة بما يجري في المطبخ السياسي اليومي و الأني ، و غير متابعة للشأن العام ، إلا في حالة واحدة عندما يكون البلد مهدد بحرب أو جائحة …
فلماذا الاهتمام المبالغ فيه من قبل عموم الشعب بالشأن الكروي وخاصة في مباريات المنتخبات ” الوطنية ” ؟ فالوطنية عند عموم الشعب تختزل في الكرة أو الرياضة بشكل عام…فالوطنية عند عامة الشعب لا تدق الأجراس إلا في ساعة وساحة الحرب أو وجود حالة التهديد الخارجي، أما في حالات السلم، فعامة الشعب تركن لهم الخبز اليومي و لا تهتم بما يجري في إدارة الشأن العام، هذا الاهتمام يغيب في معارك ذات أهمية بالغة، لتحصين الوطن من مخاطر الجهل والفساد و الاستبداد و الفقر و التهميش و الطبقية و العنصرية…
وصلة بكرة القدم والمنتخبات ” الوطنية”، نلاحظ أن حضور الوطن يقتصر على الجمهور المتفرج و على أموال دافعي الضرائب، أما المشاركين و المؤثرين على أرض الواقع والمستفدين من “اللعبة” فليسوا بالضرورة أبناء البيئة المحلية وليسوا منتمين للوطن بهمومه و جراحه وألامه، لا يرون من هذا الوطن إلا عسله و سمنه لكن شوكه وسدره فمن نصيب عموم الشعب، و بخاصة من يتطلعون لرفع مستوى البلاد و العباد حقا و حقيقة، لمن يرغبون أن يصبح المغرب بلد يحتضن المهجرين والراغبين في تحسين ظروف عيشهم و ليس بلد طارد لأبنائه رجالا و نساءا شيبا و شبابا..
ونحن نتحدث عن الكرة، كم من لا عب في الفريق المغربي من مواليد المغرب و من خريجي مدارس التكوين المحلية، و من اللاعبين في البطولة الوطنية بمختلف درجاتها؟ حتى المدرب المغربي “الركراكي” من مواليد بلد أروبي و تلقى تعليمه وتكوينه بهذا البلد نفس الأمر ينطبق على باقي نجوم المنتخب المغربي ..
من المؤكد أننا نحيي في أعضاء هذا الفريق على قتاليتهم و وطنيتهم واختيارهم اللعب للفريق الوطني، لكن لا يمكن أن ننكر أنهم نتاج نظام سياسي و إقتصادي و تعليمي و رياضي يختلف بالجملة عن ما هو متاح في الوطن الذي يحملون قميصه…
و يؤسفني أن أقول أن هذا النصر ناقص، لأنه يوحي إلى فشل تنموي ذريع وفشل المنظومة السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الرياضية و التعليمية المغربية التي فشلت في تكوين فريق وطني من المحليين، فريق أخرجته المدرسة المغربية و الملاعب الكروية المحلية..
أيها السادة الكرة تلخص كثير من المفارقات التي تعيشها مجتمعاتنا العربية، لماذا لا توجد هبة وطنية دائمة و ليست ظرفية و في حالة التهديد الأجنبي و أثناء الغزوات الرياضية ، فالشوارع أثناء مشاركة المنتخبات الوطنية شبه فارغة، والمقاهي حبلى بالمفترجين ” فلا وحش يسير و لا طائر يطير” .. وسنحاول في مقال موالي إن شاء الله تعالى استكمال هذا النقاش الكروي – السياسي …
وإلى ذلك الحين، هنيئا للشعب المغربي و باقي الشعوب العربية بهذا الفوز الكروي، و نأمل أن نرى هذا المنتخب الفتي ينافس على الكأس، و نشجع الجمهور المغربي و العربي الحاضر بملاعب قطر على مبادرته الطيبة برفع علم فلسطين ، وليس في ذلك خدش أو تعارض مع الوطنية المغربية أو غيرها، فهذه أمة واحدة و الحدود المصطنعة و الخلافات بين الأنظمة لا ينبغي أن تلغي حقيقة أن هذه أمة واحدة و أن ما يوحد الشعوب ويجمعها أكثر مما يفرقها، ففرحها واحد و حزنها واحد .. و تحية لكل الشعوب من “طنجة إلى جاكرتا” … و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون…
إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة